زهير ماجد
انشغل الإنسان منذ قديم الأزمان بمسألة حيوية بالنسبة إليه وهي التنجيم. وبقدر ما كان المنجم جريئاً في الوصف واعطاء الوصفات كان الناس يقبلون عليه ظناً من أنه متحكم بالقدرة على معرفة المستقبل وقراءته كما لو أنه بين كفيه. تلك النزعة البشرية ظلت وستظل إلى الأبد مطلباً إنسانياً لأنها ترتبط دائماً بالمجهول الذي تكمن أهميته القصوى عند البشر جميعاً مهما اختلفت ثقافاتهم وأفكارهم وعناوين حياتهم. ولهذا السبب يصبح الانشغال بالتنجيم عند مطلع كل عام من أسس مطالب الناس ودأبهم على معرفة سنتهم الجديدة بشكل عام يخص بلادهم أو بشكل خاص يخص حياتهم بتفاصيلها المعلنة والمستورة.
نعرف جميعاً مدى الأقبال على التنجيم في ليلة رأس السنة الميلادية والتي قد تبقى أياما بعد هذا التاريخ. تجلس الناس مستمعة بشكل شغوف لما يقوله المنجم ، تتعاظم النظرات فيما بينهم كلما لفظ تصوراً من تصوراته .. حاولت هذا العام أن اثني بعض المثقفين عن هذا الاهتمام فما استطعت .. خسرت معركة أبعادهم عن تلك الخزعبلات فيما استمر صمتهم واهتمامهم بكل صغيرة وكبيرة يتفوه بها المنجم الذي وصل به المقام إلى القول quot; أنه يرى quot; أو quot;رأى quot; ماسوف يحدث وكأنه أمام عينيه بالفعل.
تحدث المنجمون بالطول والعرض عما سيحدث خلال العام الحالي . قالوا كلاماً في منتهى السوداوية أو قدموا جردة حساب سياسية للعديد من الظاهرات القائمة التي قد تصيب إحداها فيأخذ ذلك المنجم علامة متقدمة كما حصل مثلا مع منجم لبناني قال في العام 2004 أن شخصية لبنانية مهمة سوف يتم اغتيالها ، وبالفعل سقط رفيق الحريري بعدها بشهر ونصف تقريبا فتحول هذا المنجم إلى مرجع كبير للسياسيين والاقتصاديين ولكل الناس بشتى أصنافهم واهتماماتهم من لبنان وخارجه ، ويقال أنه بات يملك الآن ثروة طائلة وهدايا ثمينة لاتقدر إضافة إلى ثلاث عمارات والحبل على الجرار ، وأنه تحول إلى شخصية استثنائية تسأل في النوائب وفي المحطات السياسية وغيرها. إحدى المنجمات اللبنانيات التي ظهرت نهاية العام لتقدم مسرح العام 2007 تبيع كل عام من كتب التنجيم التي تؤلفها أكثر من نصف مليون دولار ، كما أنها تعمل مستشارة لأكثر من سياس لبناني بدون تعيين رسمي تتقاضى عليه آلاف الدولارات شهرياً وفي مناسبات أخرى.
إذن الإنسان مفطور على السؤال عن المجهول العام والشخصي. إنها مسألة ذاتية ونفسية. وأكاد اعترف بأن بعض السياسيين العرب ومنهم لبنانيون يتناوبون يومياً على بعض المنجمين ضمن اتفاق سري بأن لايتم الإعلان اطلاقا عن هذا الأمر .. بل أن البعض كما أعرف كان لايخرج من بيته يومياً إلا إذا أعطته أوراق الكوتشينة إجابات محددة. وذكر لي الشاعر المرحوم عمر أبو ريشة في الثمانينيات وقبيل وفاته بأعوام قليلة أن المرحوم كمال جنبلاط كان يقصد الهند سنوياً للاطلاع من منجمين هنود على أسلئة محددة يسألها في حينه. كما ذكر أبو ريشة أنه في العام 1957 وكان يومها سفيراً لسوريا في الهند أن ترافق مع كمال جنبلاط في رحلة من هذا النوع داخل غابات كثيفة وعندما وصلا إلى الهدف دخل جنبلاط على منجمة شهيرة مالبث أن خرج متوتراً ولم يفصح عما أجابته على أسئلته ، فيما قالت المنجمة للشاعر أبوريشة: إنه سيصبح سفيراً لبلاد أكبر من سوريا فلم يصدق ، وبعد أشهر قليلة حصلت الوحدة بين مصر وسوريا في العام 1958 وتم تعيينه سفيراً لتلك الوحدة المؤلفة من بلدين في الهند أيضا.
يبقى أن التنجيم ظاهرة مدوية في العالم ككل . حتى أن اكثر الشعوب علمانية وهدوءا مستقبليا يلجأون إلى التنجيم والتبصير على الدوام مثل السويد والنروج وفنلندا أن مجرد قراءة أي كان في فنجان قهوة فإنه يتحول إلى مطلوب يومي.
المشكلة أن العلم يرفض هذه الظاهرة كما يرفضها الدين أيضا ، كما أن العقل السليم لايرضى بالخضوع إلى منطق المنجمين الذين هم بشر وإن كان لديهم ملكات التأثير بأفكار أضافة إلى خبرة الكلمات وان أكثر من يزوره هم من بحاجة إلى معرفة الغد أو أنه مصاب بأزمة يسعى لحل عقدتها ، إضافة إلى ماتلعبه وسائل الإعلام في خدمة هذا المنجم أو ذاك حتى قيل أن بعض المنجمين يدفعون أموالاً لبعض المحطات الفضائية كي يطلوا منها على الناس .
التعليقات