6 يناير 2007

ديزموند توتو -بروجيكت سنديكيت


بدأت جنوب إفريقيا الآن تترقب تقاعد ثابو مبيكي رئيسها الثاني منذ نهاية عصر التمييز العنصري. إنها اللحظة المواتية للنظر إلى الماضي، لتقييم ما توصلنا إلى تحقيقه من إنجازات، والانتباه إلى إخفاقاتنا، بل وربما الخروج بالعناصر التي اشتمل عليها انتقالنا إلى الديمقراطية والتي تصلح للتطبيق في أماكن أخرى من العالم.

الحقيقة أننا في جنوب إفريقيا لم نألف مثل هذه الممارسات، ذلك أننا كشعب نميل إلى عدم تقدير أنفسنا حق قدرها. فنحن ننظر إلى إنجازات هائلة باعتبارها من الأمور المسلم بها، ولا ننسب إلى أنفسنا الفضل في إنجازها كما ينبغي. ونتيجة لهذا فنحن نرى سحابة خفية خلف كل شعاع شمس؛ ونتصور أن إنجازاتنا لا تحمل أي مغزى إلا بالنسبة لنا.

إن العالم لم يقدر بشكل كامل حتى الآن انتقال جنوب إفريقيا، السلمي تقريباً، من القمع إلى الديمقراطية. ولا بد أن العالم يذكر الآن، كما نذكر نحن، الأيام الأولى من انتقال السلطة إلى الأغلبية السوداء، حين تصور أغلب الناس أننا سوف نغرق في حمام دم عنصري مروع.

كان وقتاً متسماً باليأس وفقدان الأمل، ومع أنه استمر لمدة وجيزة إلا أنه باق في ذاكرتنا. كان القتل شائعاً في القطارات وسيارات الأجرة، وكانت المذابح معتادة في سيبوكينج، وثوكوذا، وبيشو، وبوباتونج، وحقول القتل في كوازولو ناتال نتيجة للخصومات الدموية بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب الحرية العرقي التابع لقبيلة الزولو.

في العديد من المناسبات بدا الأمر وكأن مصير جنوب إفريقيا بات على حافة الهاوية. إلا أننا نجحنا في النهاية في تجنب الكارثة. بل لقد أدهشنا العالم بذلك المشهد الرائع لأهل جنوب إفريقيا من كل الطوائف والأعراق الذين اصطفوا في طوابير طويلة تتقدم ببطء إلى كبائن الاقتراع في السابع والعشرين من ابريل/نيسان 1994.

مما لا شك فيه أن نجاح انتقال جنوب إفريقيا يرجع في جزء منه إلى معجزة: إنها المعجزة التي تجسدت في نيلسون مانديلا الذي نجح بهدوئه وحصافته، ومكانته باعتباره رمزاً للتسامح، والتعاطف، والشهامة، والعزيمة، في تحويلنا إلى موضع لحسد كل أمة على وجه الأرض. لقد أنعم الله علينا بأن جعل ذلك الرجل مرشداً وهادياً لدولتنا طيلة فترة ميلادها الجديد. وليس لنا أن ننسى ف. و. دو كليرك آخر حكام النظام العنصري السابق، الذي أبدى شجاعة أخلاقية لا مثيل لها في التعامل مع ثورتنا التحريرية.

إلا أن مواطني جنوب إفريقيا العاديين يستطيعون أيضاً أن يفخروا بأنفسهم، فبفضل انضباطهم الذاتي، وآدابهم السلوكية البسيطة، وقدرتهم على العفو والمغفرة، بات في الإمكان منع حمام الدم. والحقيقة أنهم ضربوا مثلاً لا بد وأن يحتذى في أماكن أخرى مضطربة من العالم.

كان شعب جنوب إفريقيا، والبيض منهم بصورة خاصة، رافضين في البداية للجنة الحقيقة والمصالحة، التي سمحت لهؤلاء الذين ارتكبوا جرائم عظيمة في ظل نظام الفصل العنصري بالاعتراف بأفعالهم بصراحة، وبالتالي تجنب إقامة الدعوى القضائية ضدهم. لقد كان اندمال جراح جنوب إفريقيا راجعاً إلى الصدق والحقيقة، وليس العقاب. في كل مكان من العالم تقريباً، يُنْظَر إلى لجنة الحقيقة والمصالحة نظرة تقدير واحترام باعتبارها معلماً على الطريق ومقياساً للحكم على الجهود التي تبذلها كل الشعوب الساعية إلى الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في العالم.

أجل، لم تكن لجنة الحقيقة والمصالحة بلا عيوب إلا أن هذه سمة كل عمل يقوم به بنو البشر. إلا أنها كانت مؤسسة غير عادية، فقد تصور العديد من المحللين أن تسلم حكومة سوداء للحكم في جنوب إفريقيا يعني اندلاع موجات وموجات من الانتقام والثأر من البيض نتيجة لكل ما عاناه السود في جنوب إفريقيا منذ عصور الاستعمار وحتى عصر حكم الفصل العنصري.

ولكن ما حدث كان غير هذا، فقد اندهش العالم إزاء النبالة التي تجلت واضحة في كل يوم قبل تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة، حين بادر ضحايا الفظائع والأعمال الوحشية إلى مسامحة معذبيهم حتى أنهم كانوا يعانقونهم في بعض المناسبات. لقد عانى كل أهل جنوب إفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري. ولقد ساعدت لجنة الحقيقة والمصالحة على فتح وتطهير الجراح المتقيحة وصبت عليها بلسماً ساعد في شفائها واندمالها إلى الأبد.

قد يكون من السهل أن ننظر إلى عمل لجنة الحقيقة والمصالحة باعتبارها من الأمور المسلم بها، إلا أننا ندرك مدى أهمية هذه اللجنة حين ننظر إلى الشرق الأوسط والفوضى السائدة في العراق، حيث يغذي الانتقام والثأر حلقة مروعة من العنف. وعلى نحو مماثل، كان عمل هذه اللجنة من العوامل التي أدت إلى إبعاد جنوب إفريقيا عن شبح الإبادة العرقية، كما حدث في رواندا، وعن الصراعات التي لا تنتهي، كتلك التي نشهدها في سريلانكا، وبوروندي، والسودان، وساحل العاج، والعديد من البلدان الأخرى. لقد عملت الحقائق القاسية التي وضعتها لجنة الحقيقة والمصالحة أمام شعب جنوب إفريقيا على سحب السم من سياساتنا. وهذا درس لا بد وأن تستفيد منه دول أخرى نال منها الأذى والعنف.

إن الدرس المستفاد من انتقال جنوب إفريقيا إلى الديمقراطية يتلخص في أن أي دولة منقسمة لن يكتب لها أبداً أن تنعم بمستقبل مستقر إذا ما أصرت على المضي نحو الأمام من دون المبادرة إلى كشف الحقائق والمغفرة. كان انتقال روسيا إلى الديمقراطية قد بدأ في نفس وقت انتقالنا تقريباً. وسقط سور برلين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1989. وأطلق سراح نيلسون مانديلا من سجنه في شهر فبراير/شباط ،1990 إلا أن ما يحدث في روسيا اليوم تفشي الجريمة المنظمة، والصراع في الشيشان، والمذابح، ككارثة رهائن المسرح، وكارثة مدرسة بيسلان يجعل انتقال جنوب إفريقيا إلى الديمقراطية يبدو وكأنه نزهة مدرسية في يوم أحد. إن تجنب الحقائق التي شهدها الماضي السوفييتي جعل الشعب الروسي، من دون وعي، يخزن المشاكل والمتاعب للمستقبل.

لا أحد يستطيع أن يدفن جريمته، والجرائم السياسية بصورة خاصة لا تتلاشى مع الزمن. فنحن لم ننس ما تحمله المواطنون السود باسم الفصل العنصري. والحقيقة أننا بتأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة أصبحنا نعرف المزيد والمزيد عن الفظائع التي ارتكبت في ذلك العصر، مقارنة بما كان قد يحدث لو سعينا إلى محاكمة هؤلاء الأشخاص، أو لو كنا قد حاولنا ببساطة أن ننسى الماضي ونتغاضى عن كل أحداثه. لقد حررتنا الحقيقة فعلياً، حتى أصبح بوسعنا أن نعقد السلام مع أنفسنا. وبفضل التذكر والغفران أصبح بوسعنا أن نسلم كوابيس الماضي إلى صفحات النسيان. وإنني لأتمنى بكل صدق أن يتمكن العراقيون وكل الشعوب الأخرى التي يطاردها ماضيها من إيجاد الوسيلة التي تجعلهم قادرين على الحياة في سلام وراحة بال.

* حائز على جائزة نوبل للسلام.