15 يناير 2007
خيري منصور
لم يعد سائر هذا الجسد المسجى والمثخن بالجراح يتداعى بالحمّى أو بأي شيء حتى الأنين إذا ما أصاب التلف القلب، أو إذا تحولت الكرامة الوطنية إلى كيس ملاكمة مملوء بالرمل والتراب.
فالخصخصة الآن في ذروتها، وما من سعدٍ نجا إلا لأن سعيد أهلك، وما من عرسٍ إلا وكان على أطلال مأتم، هكذا تعود أيام العرب الأولى والتي ظننا أنها غبرت بكامل ماكياجها الحداثي. وبمعجم من المصطلحات الفوسفورية التي تصيب من يحدق إليها بالعمى.
ولو شئنا الحقيقة فإن الإصلاح العربي قد حدث، لكنه إصلاح لما تبقى من أخطاء كانت للتو تشكو من عدم الاكتمال، لأن هناك من الخطايا القومية ما يحتاج إلى عدة عبقريات متحالفة لإنجازه.
سهل علينا وعلى سوانا أن ندير ظهورنا لما يجري، وهناك بالفعل من أداروا ظهورهم وقالوا ليأت من بعدنا الطوفان، لأن التيئيس المبرمج تحول إلى مناخ مشبع بالقنوط، ولأن عبارة سعد زغلول غطيني يا صفية.. التي غالباً ما يستشهد بها المصابون بإنفلونزا الزواحف هي من إفراز هذا الإحباط، بل هي مخاطه بامتياز.
ومن يلقِ نظرة عامة من مرتفع ما على المشهد القومي، يصب بقشعريرة قد لا يبرأ منها ليس بسبب هول ما يحدث فقد حدث مثله وربما أكثر منه في القرن السابع الهجري أو الثالث عشر الميلادي، وما يقوله المؤرخون العرب عن الحقبة العجفاء في تاريخنا يحتاج إلى إعادة قراءة، هذا إذا كان قد قرئ أصلاً. ولا أدري لماذا تعيدني هذه الأيام إلى اثنين من الأبناء في زمن الآباء، هما ابن الأثير وابن خلدون، ففي الماضي كان الناس ومنهم المفكرون والتنويريون أكثر تواضعاً من أحفاد أحفادهم، وكانوا يسمون أنفسهم أبناء لآبائهم، بخلاف ما يحدث الآن، حيث فاضت الباترياركية وأصبح الطفل أباً لأبيه.
ابن الأثير بكى حتى بلل المخطوط، وتمنى لو أن أمه لم تلده كي لا يرى ما رأى، وابن خلدون شمّ بأنفه المدرب رائحة هذه الجيفة العملاقة قبل قرون من ذبحها وسلخ جلدها، وتجويف عظامها وتحويلها إلى مكاحل.
حذرنا من سطو الغرائز، وجنون الامتلاك كما حذرنا من الزحف البربري على الشجرة والماء والكتاب، لكن الرجل الذي شهد المرحلة التيمورية- نسبة إلى تيمورلنك- التبست عليه بعض الأمور، مثلما تلتبس الآن على أحفاده من المثقفين الذين خطفت أبصارهم في كرنفال المصطلحات الفوسفورية، وفي هذه الحفلة التنكرية الكبرى التي تسمى العولمة، وأحياناً كوميديا آخر الأباطرة وقراصنة ما بعد الحداثة وما بعد الإنسان.
لنعترف من دون أية مواربة بأن تحول أمة إلى قطيع، ينجو كل فرد منه بجلده إذا استطاع في لحظة المطاردة وكسر الأعناق، هو بيت القصيد، بل بيت الداء، فمن لم يأزف دوره بعد في الطابور الطويل أمام المقصلة، هو على موعد معها.
لهذا سبقنا حكيم سومري بآلاف الأعوام عندما روى حوارية دارت بين سيد وعبد من ذلك العهد.. فقد أمر السيد بقتل العبد لأنه لا يعرف شيئاً اسمه الاعتراض لهذا فهو مجرد ظل أو صدى ولا حاجة لبقائه على قيد الحياة.
لكن العبد غير الآبق، اهتدى في اللحظة الأخيرة إلى ما ضاع منه طوال حياته، وقال لسيده أيصر سيدي على أن أسبقه ببضعة أيام أو أعوام؟
عندئذ تذكر السيد السومري أنه ليس خالداً، وأن العشبة التي لعبت دور البطولة وإكسير الحياة في ملحمة جلجامش لم تنبت بعد في أي مكان.
التعليقات