17 يناير 2007


د. محمد السيد سعيد



عادت السيدة العجوز بعد أربعين عاماً للانتقام, كانت تعرف عيوب كل واحد من سكان القرية، فنفدت إليهم من كهف جشعهم المظلم والكامن في أعماق النفس ودفعتهم لاغتيال عمدتهم الذي كان قد تخلى عن حبه لها عندما كانت إحدى سكان القرية الفقراء قبل أن تهاجر بعيداً وتحقق نجاحاً مالياً كبيراً.

هذه هي الخطوط العريضة لمسرحية المؤلف السويسري quot;دورينماتquot; التي بهرت جماهير الشباب في العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ففضلاً عما تشتمل عليه من دراما إنسانية خصبة، فقد أحبها الأوروبيون لأنها كانت تصور في اعتقادهم الطريقة التي أفسدت بها أميركا مجتمعاتهم، ربما انتقاماً للبطش الذي عاناه المهاجرون الأوائل إلى أميركا في القرن السابع عشر.

وليست هناك مشابهات كثيرة أو مباشرة بين quot;زيارة السيدة العجوزquot; وزيارة كوندوليزا رايس للمنطقة خلال هذا الأسبوع. فما يحزن شعوب العالم العربي من رايس ليس كونها quot;عجوزاquot; جاءت للانتقام، وإنما كونها جاءت من خلفية كان ينبغي أن تقودها لفهم سيكولوجية الإنسان العربي المقهور والتعاطف مع قضاياه وليس معاداته. رغم ذلك فالسيدة الشابة التي تزور منطقتنا هذا الأسبوع تستكمل في الواقع أجندة ليست بعيدة تماماً عما كان يعتمل في ذهن quot;سيدة دورينمات العجوزquot;. فنزعة الانتقام كانت محركاً أساسياً للأجندة التي وضعها الرئيس بمساعدة وزيرته الشابة للسياسة الأميركية في المنطقة. كان هناك دافع الانتقام أولاً من الفلسطينيين الذين تجرأوا على الانتفاض في وجه إسرائيل عام 2000. واتخذ هذا الدافع طابع التهذيب البارد أثناء المعركة الانتخابية للرئيس قبل أن يأتي إلى الرئاسة، بالقول إن الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون عرّض مهابة الولايات المتحدة للخطر عندما تدخل بنفسه في مفاوضات quot;واي ريفرquot; وquot;كامب ديفيد 2quot; الفاشلة، والتي ثار الفلسطينيون عليها بالانتفاضة. وبدلاً من أن ينخرط بنفسه في مفاوضات جديدة لإنقاذ الحل الأميركي للصراع العربي الإسرائيلي، قرر الانتقام من الفلسطينيين بدفع إسرائيل للبطش الوحشي بالانتفاضة. وسريعاً ما تكون لديه دافع آخر للانتقام من المنطقة، عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001. فقرر أن على المنطقة كلها أن تدفع ثمن العملية الإرهابية التي قامت بها حفنة ضئيلة من سكانها في ذلك اليوم. ولا شك أن دوافع الانتقام كانت قائمة في الولايات المتحدة بالفعل نحو إيران المسؤولة عن أزمة الرهائن الأميركيين عام 1979 التي اعتبرها اليمين الأميركي إذلالاً للدولة الأقوى في العالم.

اتخذ الانتقام أشكالاً متعددة أهمها الغزو الأميركي للعراق ثم بدأ يتوسع بطريقة السيدة العجوز في مسرحية دورينمات بالتلاعب بالطائفية، وإيقاظ المرارات المتبادلة بين الإيرانيين والعرب، ودفع دول المنطقة للتخلي عن الشعب الفلسطيني وتركه وحيداً للبطش الإسرائيلي.

ماذا في جعبة الوزيرة الشابة للمنطقة أثناء زيارتها للمنطقة هذه المرة؟ ربما نجيب على هذا السؤال بالإشارة أولاً إلى الزيارات السابقة لوزيري الخارجية الأميركيين للمنطقة في عهد الرئيس بوش الابن. إذ اتسمت هذه الزيارات بسمات معينة تميزها عن كل ممارسات الدبلوماسية الأميركية قبل تولي بوش للرئاسة الأميركية.

أول هذه السمات هي ما يسمى بالدبلوماسية المفتوحة. وكان الجنرال كولن باول، وزير الخارجية السابق، يعلن هذه السمة بالقول إنه لم يأت إلى المنطقة بأفكار محددة. وهذا هو ما كانت تقوله أيضاً رايس أثناء زياراتها السابقة وأكدته هذه المرة أيضاً. وتعني هذه المدرسة الدبلوماسية غير المسبوقة في الولايات المتحدة التي عادة ما كانت لديها أفكار محددة تروجها أو تفرضها على مختلف الأجندات الإقليمية، أن الولايات المتحدة لن تقبل التزامات محددة فيما يتعلق بسياساتها في المنطقة قبل أن يلتزم زعماء المنطقة بالتزامات أكبر وأن خطط الإدارة الأميركية تتداعى مع الوقت ولا تنهض على تصور شامل يكون هو ذاته مقبولاً من شعوب المنطقة. وبينما لم تتخل الوزيرة الشابة عن هذه المدرسة الدبلوماسية، فإن الضغوط المتصاعدة على الإدارة من داخل الولايات المتحدة ربما تجبرها في الواقع على تطبيق أفكار محددة تصدر عن تصور شامل إلى حد كبير، وهو أن تقوم الدول الحليفة بالدور الأساسي في تصفية المقاومات للسياسة الأميركية في المنطقة بما في ذلك إيران.

أما السمة الثانية فهي النزوع المتغطرس لتوزيع الأدوار بين الدول العربية المهمة. ويستخدم الرئيس الأميركي نفسه تعبيرات فظة دبلوماسياً لفرض هذه الأدوار مثل أن الرئيس فلان أو الملك فلان quot;يفهم مسؤولياتهquot;. ولا شك أن زيارة رايس هذه المرة ارتبطت أساساً بتوزيع الأدوار الضرورية لتطبيق الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق.

وأخيراً فإن أهم سمات الدبلوماسية الأميركية في ظل الرئيس بوش الابن هي إهمال القضية الفلسطينية. وكان هذا الإهمال رسمياً ومعبراً عنه ببيانات ومواقف ورمزيات لا يمكن أن تخطئها العيون أو الأفهام. ووصل الأمر حد قيام الجنرال باول بزيارة طويلة لإسبانيا وهو في طريقه للمنطقة أثناء واحدة من أسوأ موجات العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني عام 2003. وتتعرض هذه السمة أيضاً للتغيير أثناء زيارة الوزيرة الشابة للمنطقة هذه المرة. إذ سربت الإدارة معلومات غامضة عما يقال إنه خطة أميركية جديدة لتطبيق ما تسميه رؤية بوش للتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

ويمكننا تلمس المحددات الأساسية لهذه الزيارة في فكرة جوهرية واحدة وهي عرض صفقة على الزعماء العرب تلزمهم بتعزيز وإنجاح الإستراتيجية الأميركية في العراق مقابل وعد مبهم بتحريك القضية الفلسطينية في الشهور المقبلة.

ففي ضوء احتمالات معارضة الكونجرس والشعب الأميركيين، يرغب بوش في تعويم وتعزيز هذه الاستراتيجية من خلال الجهود التي تبذلها بعض الدول العربية لصالحه. أي أن المدخل الإقليمي صار لأول مرة جزءاً لا يتجزأ من المدخل الأميركي لحل المسألة العراقية. والأرجح أن تكون رايس قد طلبت دعماً تمويلياً من عدد من الدول العربية الغنية، وطلبت الإسناد السياسي الذي يضفي الشرعية على الاستراتيجية الأميركية الجديدة من الدولتين الحليفتين الرئيستين لها في المنطقة؛ أي مصر والسعودية, ودعماً سياسياً واستخباراتياً من دولة عربية أخرى تتاخم العراق.

لكن ماذا تدفع الولايات المتحدة في المقابل؟ إن القادة العرب درجوا على إبراز حقيقة أنه بدون حل المسألة الفلسطينية سوف تتدهور شرعيتهم وسوف تزداد الأمور سوءا، خاصة بدخول إيران على خط الصراع العربي- الإسرائيلي مباشرة. والوزيرة الشابة كانت تقول لهم في الماضي إن هذه مشكلتهم وعليهم التعامل معها دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وذلك لإجبارهم على التقدم بمبادرات quot;قويةquot; نحو إسرائيل. اليوم لن تكرر رايس هذه الفكرة. ستقول إن الولايات المتحدة تزمع إطلاق عملية سياسية تقوم على إنشاء دولة فلسطينية quot;مؤقتةquot;، بعد إسقاط حكومة quot;حماسquot; وخاصة بعد أن أدى الزعماء العرب بعض الأدوار المنوطة بهم في إضعاف هذه الحكومة. ويتلو ذلك تخفيف معاناة الفلسطينيين عبر مفاوضات مباشرة بين الطرفين الإسرائيلي والأميركي, على أن يتم ذلك كله في حدود وعد بوش لشارون بنهاية رئاسته الأولى. ولا يوجد ضمان لوضع نهاية سعيدة لهذه المفاوضات. إذ يعتمد الأمر كله على سلوك الفلسطينيين وعلى تقدم الولايات المتحدة على طريق تصفية المعارضة الإقليمية لسياساتها في العراق وفي المنطقة. فهذه هي الحكمة من وراء الدبلوماسية المفتوحة وهذه هي الحكمة من الصفقة التي تعرضها وزيرة الخارجية أثناء زيارتها هذه المرة.