د. يحيى الجمل
حسنًا فعل السيد رئيس الجمهورية باقتراح إضافة فقرة ثالثة إلي المادة الخامسة من الدستور تنص علي أن laquo;مبدأ المواطنةraquo; هو من المبادئ الدستورية الحاكمة لقيام الأحزاب السياسية.
والحقيقة أن هذا المبدأ تضمنته المادة الأربعون من الدستور بشكل واضح وصريح عندما قالت laquo;المواطنون لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدةraquo;.
وهذا النص في وضوحه وصراحته لا يحتاج إلي إضافة ولا إلي مراجعة، وقد أصدرت المحكمة الدستورية العليا كثيرًا من الأحكام التي تستند إلي هذا النص.
فما مفهوم مبدأ المواطنة وما مدي اتفاق التعديلات الدستورية المطروحة مع هذا المبدأ؟
بوضوح وبإيجاز شديد، يعني مبدأ المواطنة أن كل مواطن يتساوي مع كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات، ماداموا في مراكز قانونية واحدة.
فالمصريون جميعًا من حيث laquo;المصريةraquo; في مركز قانوني واحد. ولا يجوز التفرقة بين مصري ومصري آخر فيما تقتضيه laquo;مصريتهraquo; بمعني أنه من غير الدستوري أن يقال: إن المصري من أسوان يتميز علي المصري من المنوفية، أو إن المصري في حزب التجمع يتميز علي المصري في الحزب الوطني،
أو إن المصري في حزب التجمع وفي الحزب الوطني يتميز علي المصري الذي اختار ألا يكون عضوًا في هذه الأحزاب، ذلك لأن المصريين كلهم مواطنون في مصر، ولأن المواطنين جميعًا لدي القانون سواء لا تمييز بينهم بسبب المقر أو الموقع الجغرافي أو الانتماء الديني أو الانتماء الحزبي.
إذا صدرت قاعدة قانونية تقول إنه لا يجوز للمصري غير المسلم أن يتولي منصبًا معينًا أو ألا يباشر حقًا سياسيا معينًا فإن هذه القاعدة تكون غير دستورية لمخالفتها مبدأ المواطنة.
وعلي ذلك قلنا ونقول، إذا قام حزب سياسي وقال إنه لا يقبل في عضويته غير أصحاب دين معين، أيا كان ذلك الدين سواء كان الإسلام أو المسيحية أو غير ذلك، فإنه يكون قد تنكر لمبدأ المواطنة وحكم علي نفسه بأن وجوده غير دستوري.
بل إنني أذهب إلي أبعد من ذلك، وأقول إن حق المواطن بصفته مواطنًا أن يدخل أي حزب شاء، أو أن يلي أي منصب عام تنطبق عليه شروطه لا يرتبط بكونه منتميا إلي دين معين، أو أنه بغير دين أصلاً. فمن حق المواطن أن يكون مواطنًا حتي ولو لم يكن صاحب دين سماوي من الأديان الثلاثة المعروفة.
إنني لا أذهب إلي ما ذهب إليه أبو العلاء المعري- قاتله الله- في قوله:
اثنان أهل الأرض عاقل من غير دين
وآخر دين لا عقل له
وقد أثير أخيرًا موضوع الطائفة البهائية، وصدر حكم لصالحهم من محكمة القضاء الإداري، وألغت المحكمة الإدارية العليا هذا الحكم، ولكن، أي من الحكمين لم ينكر- ولا يستطيع أن ينكر- علي أفراد هذه الطائفة أنهم مواطنون مصريون، فهذه المواطنة لا ترتبط بالدين علي أي نحو.
والمسألة ليست مسألة مبني النصوص وشكلها فقط، وإنما أهم من ذلك مضمون النصوص من الناحية الواقعية.
التفرقة الواقعية بين المصريين علي أساس الدين في المناصب العامة لا تتفق مع روح الدستور ومع حقوق الإنسان ومع مبدأ المواطنة.
لقد شاهدت مصر في تاريخها القريب أن laquo;مصريا قبطياraquo; كان رئيسًا لمجلس النواب وكان رئيسًا لمجلس الوزراء، واختفاء هذه الظاهرة ليس علامة صحية. وعندما لا يرشح حزب الأغلبية في قوائمه إلا عددًا من الأقباط، أقل من أصابع اليد الواحدة، فإن ذلك يعني نوعًا من الخلل في الحياة السياسية ويعني أن مبدأ المواطنة لم يستقر في وجداننا وفي حياتنا علي النحو الذي ينبغي أن يكون.
في مناسبة من المناسبات كان المرشح لرئاسة مجلس الدولة أحد المستشارين المسيحيين- رحمه الله- وكنت بحكم تخصصي وصلتي بالقضاء الإداري أبدي مساندتي وتأييدي له، وكنت أقول لمن أعرفه إنه إذا لم يحصل علي الأغلبية في الجمعية العمومية لمستشاري المجلس فإن ذلك سيعكس صورة سيئة لمصر، وكنت سعيدًا عندما اختارته الجمعية العمومية بأغلبية كبيرة وأصدر رئيس الجمهورية قرارًا بتعيينه رئيسًا لمجلس الدولة.
والآن يرأس هيئتين كبيرتين من الهيئات القضائية زميلان مسيحيان فاضلان.
ومع ذلك فعلينا أن نعترف- والاعتراف بالحق فضيلة- أن تفرقة laquo;واقعيةraquo; لغير صالح الإخوة الأقباط نشاهدها في بعض المواقع والمناصب، وأنا واثق أن أحكام الدستور بريئة من هذه التفرقة وأن ذلك نتيجة من نتائج ضيق الأفق ليس غير، وأسمع أحيانًا روايات وقصصًا عما يحدث في بعض الدوائر وأعجب لها، ذلك أنه إلي جوار الاعتبارات الدستورية فإنني ممن يؤمنون أن جوهر الدين واحد.
وقد كنت ومازلت أكرر عبارة بليغة وعميقة لقداسة البابا شنودة الثالث يقول فيها laquo;إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه وإنما هي وطن يعيش فيناraquo;.
إن هذه العبارة البليغة العميقة تعكس مدي عمق الوطنية، ومدي عمق الانتماء ومدي عمق laquo;المصريةraquo;، لقد جعلت من هذه العبارة عنوانًا لأكثر من مقال كتبته لأن إعجابي وإيماني بهذا الذي قاله قداسة البابا هو إعجاب بغير حد، ومن الأمور التي أعتز بها وأفخر عمق علاقتي بقداسته وما أحسه منه في كل مقابلة من مودة ومحبة وترحيب.
إن مبدأ المواطنة هو أحد الأسس الدستورية في الدولة الحديثة.
وإذا كنت قد ضربت أمثلة توسم بعدم الدستورية لمخالفتها مبدأ المواطنة فإنني هنا أحذر من شيء آخر أكثر خطرًا وأبعد ما يكون عن المواطنة وعن المبادئ الدستورية السليمة، فقد قيل إن بعض القوانين التي ستترتب علي التعديلات الدستورية ستفرق بين المواطنين علي حسب ما إذا كانوا حزبيين أو مستقلين عن الأحزاب في مباشرة حقوقهم السياسية.
لو صح هذا الكلام فإنه سيكون بمثابة ضربة للدستور ولمبدأ المواطنة في مقتل.
إن الحزبيين في مصر بمن فيهم أعضاء الحزب الوطني وأعضاء كل الأحزاب الأخري لا يتجاوزون خمسة في المائة من المصريين علي أحسن الفروض، وإذا أضفنا إليهم أعضاء حزب الإخوان المسلمين- بفرض قيامه- فإنهم جميعًا لن يصلوا إلي عشرة في المائة من المصريين ويبقي تسعون في المائة من المصريين لا ينتمون إلي أحزاب،
فهل يمكن أن يقال إنه يتفق مع الدستور أن يقصي تسعون في المائة من المصريين عن حق الترشح وحق الانتخاب ولا يتمتع بذلك إلا عشرة في المائة فقط منهم، وبالمعيار العددي فإن ذلك يعني أن أكثر من أربعة وسبعين مليون مصري سيقصون عن الحياة العامة، ولن يسمح إلا لأقل من مليون مصري بممارسة الحقوق العامة، هل هذا يتفق مع مبدأ المواطنة ومع المبادئ الدستورية.
وتتضح خطورة هذا التوجه ومدي مخالفته النظام الديمقراطي والمبادئ الدستورية بأجلي صورة وأوضحها في الحرص علي إبقاء المادة السادسة والسبعين من الدستور علي حالها مع السماح- كما قيل في مذكرة التعديل- لهذه الأحزاب بالترشح لهذه الانتخابات بشروط أيسر.
أيها الناس اتقوا الله.
ولنا عود إلي مبدأ المواطنة والمادة السادسة والسبعين من الدستور.
التعليقات