سمير عطا الله
يستخدم الفريقان المتنازعان في لبنان مصطلحاً واحداً في اتهام الآخر، وفي الدفاع عن النفس، هو quot;الانقلابquot;. ويرفع كلاهما علماً واحداً هو علم لبنان. ويتنازع كلاهما على مفهوم واحد لحكومة quot;الوحدة الوطنيةquot;. ويظهر هذا التسلح بمفردات ورموز واحدة من أجل فرض مفاهيم متناقضة، مدى سقوط مفهوم الدولة وترابطها في العالم العربي. ولبنان ليس المثال الوحيد، وان يكن المثال المفاجئ، او غير المتوقع. اذ على رغم سيطرة الثقافة الأمنية على اداة السلطة والحكم، ظلت مظاهر الدولة الدستورية قائمة. فالبرلمان كان يعمل في معظمه بانتظام. والصحافة احتفظت لنفسها بحرية واضحة، على رغم الرقابة غير المعلنة. والحكومة كانت تتصرف وكأنها مستقلة وغير خاضعة للتدخلات او الاوامر.
وفي فلسطين ظلت المظاهرة قائمة أيضاً على رغم ان قرارات السلطة، صغيرها وكبيرها، كانت في يد منشئ الثورة والسلطة، ياسر عرفات. وقد حرص على ذلك المظهر الى درجة انه تقبّل ان تخوض الانتخابات الرئاسية ضده سيّدة. وهذه مسألة غير واردة في العالم العربي. فالرئاسة للرئيس وللمعارضة المنفى.
لكن الوضع تغير منذ وصول quot;حماسquot; الى السلطة. وبعدما كانت الثورة الفلسطينية ثورة على اسرائيل اصبحت ثورة على مفهوم الحكم والدولة والوجود والمصير. وتحولت quot;فتحquot; من رمز لـquot;الكفاح المسلحquot; مدى أربعين عاماً الى رمز لـquot;الاستسلامquot;. وفي هذا الصراع انهارت مقومات الدولة نفسها، أو ما كان قائماً منها. فقد اتضح ان النزاع في اعماقه، ليس على الحكم وانما على مفاهيم الكينونة والنظام الحياتي والرؤية الى القوانين والمجتمع المدني.
ويبدو هذا النزاع واضحاً في العراق، حيث ساد طوال عقود حكم مطلق لا يرتضي من شعبه ولاء دون المئة في المئة. فالدولة التي قيل ndash; ولا يزال يقال ndash; إن البريطانيين تولوا quot;تركيبهاquot;، يعمل العراقيون طوعاً واندفاعاً الآن لتفكيكها. وهناك حرب واضحة لتغيير معالم بغداد، بالاضافة الى ان مدناً آخرى، مثل كركوك، لتنتظر حروبها الفاصلة، او الحاسمة، بحيث يحل المجتمع العرقي والمذهبي محل الدولة المدنية.
سبب هذه الأوبئة المتفسخة في العالم العربي، كما يقول الدكتور حسن حنفي، استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، هو فشل الانظمة الثورية التي جاءت بعد التحرر من الاستعمار. لقد تحولت من الاشتراكية الى الرأسمالية، ومن محاربة الصهيونية الى الاعتراف بها، ومن المطالبة بالحريات الى توسيع السجون. وأدت النكسات والخيبات العسكرية والسياسية والاقتصادية الى قيام مجتمعات متضاربة ضمن المجتمع الواحد، لكل منها نظرته الى الحياة والانسان والدولة.
مع انهيار الحلم بدولة عادلة وقوية، انهار أيضاً حلم الثقافة العربية، وتناثر المثقفون وتراجعوا. وبعدما كانوا يقودون الحركة القومية ويتقدمون حركة التنوير، تحولوا الى موظفين عند السلطة، أو منفيين بلا عنوان ثابت. وقد طعن عامل ميكانيكي نجيب محفوظ في عنقه، ومات نزار قباني في لندن، وطرد ادونيس من رابطة الكتّاب في سوريا، واوقف محمود درويش مجلة quot;الكرملquot;، نصف السنوية، لأنه لم يعثر لها على قراء. لقد ذهبوا جميعا الى المجلات الفنية والرياضية.
رفع العلم اللبناني في هذا النزاع المدمِّر، ليس سوى ظاهرة شكلية. جميع الاحزاب، موالاة ومعارضة، لها اعلامها الخاصة ورموزها الخاصة إما متفرعة من الارزة وإما لاغية لها وإما مستعارة من الوان اوكرانيا. لعل وعسى. وقد رفع العلم الرسمي من باب المزايدة او من باب المكايدة. ولو تركت المسألة للاختيار الحر، لرفع كل فريق علمه فوق مؤسسات الدولة واعمدة الوطن. وفي فلسطين ترفع quot;حماسquot; علمها لا العلم الرسمي. وخلف كل علم خطاب سياسي مختلف او متناقض او متنازع.
يقول الدكتور حنفي: quot;وقد ينتهي الامر الى شق الصف الوطني والوقوع في حرب اهلية بين رفقاء الامس، بين الدولة والثورة، تسفك الدماء، وتتبادل الاتهامات بالعمالة والخيانة، وحينئذ ينشأ النمط الثالث، وهو لا ثورة ولا دولةquot;. وهذا الفريق هو في لبنان فريق البسطاء والمعزولين والمقهورين من الجميع. واقصى ما في قدرته انه توقف عن متابعة نشرات الاخبار او الاصغاء الى السياسيين. وهو لن يجد ملاذه طبعا في quot;اتحاد العمالquot; الذي لم يتظاهر يوم اعتقل امينه السابق وادخل السجن واخرج منه دون اتهام. ولن يجد منقذه في كلام عمر افندي كرامي الذي خاطب شعبه قائلا: ما دامت حكومتي اخرجت باحراق الدواليب فلماذا لا تخرج هذه الحكومة بالطريقة نفسها؟
لم يغير الراحل رشيد كرامي لحظة في مواقفه السياسية، لكنه ايضا لم يتخل لحظة واحدة عن التصرف كرجل دولة يرفض فكرة الشارع، ظالما او مظلوما. وهذا ما يميز الرجال والمراحل امام المرآتين: الناس والتاريخ. ويبدو اننا دخلنا فصلا جديدا من هذا التاريخ المرير، يمكن ايا كان فيه ان يعدنا بـquot;قيامة لبنانquot; على درج بكركي. ولا نعرف متى ستنتبه بكركي الى ان ثمة حرمة وطنية لدرجها مثلما هناك حرمة لسورها الداخلي وجدرانها العالية. واذا كانت تفتح ابوابها من قبيل المساواة في الزائرين، فليس من الحكمة ان تمنح منبرها للعابثين، جهلا او زورا او حماقة، بكرامة الفكر والرقي والمثل والقيم، التي يفترض ان بكركي تمثلها وتدافع عنها.
اعود الى الدكتور حسن حنفي: quot;يتوقف الخيال السياسي، وتغيب البدائل، فليس في الامكان ابدع مما كان وتلتصق الدولة بالدول الكبرى سندا لها وتتفكك الدولة من الداخل، وتتحول من حامل لمشروع وطني يجمع بين الناس، الى مجموعة من الشلل المتناحرةquot;. فالحقيقة ان المطلوب في العالم العربي هو التأميم وليس المشاركة، والتسلط لا الشورى، ومصلحة السلطة المطلقة لا مصالح الناس ولا همومها. باختصار المطلوب هو الغلبة لا التسوية. وقد رفع صائب سلام المنتصر شعار quot;لا غالب ولا مغلوبquot; لأن الاوطان لا تقوم على تبادل القهر بل على تبادل الخيرات والفوائد ومفاهيم الحرص والاستمرار وسبل الترقي والنمو. quot;لكن اكثرية الناس لا يعلمونquot;.
التعليقات