د. عبدالإله بلقزيز

لم يكن خطاب الحداثة خطابا برانيا مفتعلا في الفكر العربي المعاصر. كان له ما يبرره في الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي. ففي مجتمع يعاني من ثقل التقليد ومن مفاعيل التأخر الثقافي والتاريخي. مثل المجتمع العربي المذهول بصدمة الغرب منذ مطلع القرن التاسع عشر والمذهول بصدمة اكتشاف الفجوة الحضارية التي تفصله عن العالم الحديث ومحصلة التراكم والتقدم فيه، لم يكن ممكنا لخطاب الحداثة الا ان ينتزع لنفسه شرعية فيه وفي رحاب ثقافته.
لقد بدا منذ ميلاده قبل قرن ونصف واعيا وعيا حادا لمأزق تاريخي وجد فيه الاجتماع العربي نفسه، ووجدت فيه الثقافة العربية نفسها، امام تحولات هائلة اطلقها صعود المدنية الاوروبية الحديثة وزحفها الكوني الظافر خارج حدودها الجغرافية، وبمقدار ما كان عليه ان ينبه الىحقيقة التأخر الذي يرزح فيه المجتمع والثقافة العربيين، بمقدار ما كان عليه ان يقترح على المجتمع والثقافة فكرة التقدم بوصفها الفكرة التأسيسية لمشروع النهضة والرد التاريخي الشامل على حالة التأخر تلك.
ربما كان من تحصيل الحاصل ان يقال ان فكرة التقدم والنهضة، في خطاب الحداثة العربي المعاصر، ليست مستقاة من تاريخ ثقافي او اجتماعي عربي - اسلامي موروث عن حقبة ما قبل النهضة، وانما هي مستعارة من التراث الاوروبي الحديث؛ لكن ذلك ليس سببا وجيها للطعن فيها بدعوة برانيتها عن مألوفنا الثقافي لان في مثل ذلك الطعن ان حصل - وقد حصل - ما يسوغ لمثل ذلك التقليد ويرسخه بزعم الدفاع عن laquo;الاصالةraquo; او عن laquo;الاستقلالية الحضاريةraquo;، او باسم مواجهة laquo;التأوربraquo;: اي التشبه بأوروبا والسير على سنن تطورها. غير ان من حسن الحظ ان مثل تلك المقاومة السلبية لفكرة التقدم لم يضع اصحاب هذه الفكرة في الزاوية الضيقة او يعزلهم عن الجمهور بوصفهم laquo;طابورا خامساraquo; مدسوسا في المجتمع والثقافة، ذلك ان قسما كبيرا من المثقفين العرب المحدثين - من غير المحسوبين على العلاقة الثقافية الصريحة بأوروبا - كان طرفا اصيلا في الدفاع عن فكرة التقدم والنهضة من موقع ثقافي اسلامي ليس موضع التباس او اشتباه (وتلك كانت حالة مثقفي الاصلاحية الاسلامية في القرن التاسع عشر)، الامر الذي يرفع عن مقالة التقدم شبهة ارتباطها بأهداف ثقافية برانية مناهضة.
من نافل القول ان فكرة التقدم او الترقي او التمدن او التحديث احتلت موقعا اشكاليا رئيسا في الخطاب العربي الحديث منذ نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر، وان معدل الانشغال بها ارتفع اكثر منذ نهاية القرن نفسه وخاصة في بلاد الشام ومصر. لكن الثابت لدى الباحث في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر، وفي هذه الحقبة منه بخاصة ان الذين فكروا في موضوعة التقدم من التيارات الفكرية (اصلاحية اسلامية، ليبرالية ..) لم يعد في مكنهم ان يفكروا فيها متوسلين بمعارف الماضي الموروثة التي كان يسعفهم استدعاؤها والبناء عليها في مسائل ثقافية اخرى. ذلك انهم اكتشفوا بالمعاينة ان معارف الماضي (العربي - الاسلامي الوسيط) تلك لم تعد تملك ان تمدهم بما يسمح لهم ببناء فكرة التقدم على نحوة ما باتت تفرض نفسها عليهم حينذاك، كان يسع المشدودين منهم الى المرجعية الاسلامية (والاصلاحيون منهم على وجه التحديد) ان يستمروا في لعبة الاستعارة الرمزية لسوابق التاريخ الاسلامي للبناء عليها او الالتماس الشرعية منها لتسويغ فكرة التقدم، لكنهم كانوا مدفوعين - مثل الليبراليين تماما - الى التسليم بان التقدم الوحيد المطلوب هو ذاك المشدود الى المثال الاوروبي الحديث على نحو ما جرى استيعابه وادراكه من قبل النخب الثقافية العربية فيذلك الحين (القرن التاسع عشر).
ومع ذلك، اي مع وجود هذا المشترك الجامع بين الاصلاحيين والليبراليين في النظر الى مسألة التقدم، ثمة من التمايزات بينهم ما يسمح بالقول اننا ا مام مقالتين (خطابين) في الموضع تتفاوتان في حدة التعبير عن الانتصار لفكرة التقدم.
المقالة الاولى حدية وجامحة وقد عبر عنها الخطاب الليبرالي العربي في بلاد الشام في العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر وفي مطالع القرن العشرين (بطرس البستاني، وشبلي الشميل وفرح انطوان واديب اسحق ..) وفي العقود الاولى من القرن العشرين في مصر احمد لطفي السيد وسلامة موسى وطه حسين، يطبع هذه المقالة جهرها الصريح بمضمونها العلماني، الذي يبلغ حد النقد الشديد والحاد للدين كما عند شبلي الشميل اي ببنائها التلازم بين تحقيق التقدم وبين قيام نظام علماني في الدولة والمجتمع. ويرتبط بكثافة الفكرة العلمانية فيها منزعها التطوري laquo;الدارويني الاجتماعيraquo; الذي يحسب التقدم حصيلة اصطفاء تاريخي لحالة تقوم على انقاض ما قبلها. ومن تحصيل الحاصل القول انهذهالمقالةتسلم، في منطلقاتها، بمركزية المثال الاوروبي في تطور التاريخ. هكذا يصبح مشروع التقدم (= الترقي، التمدن في خطاب هؤلاء المفكرين) تقليدا ميكانيكيا لنموذج التقدم المتحقق في العالم الاوروبي، ويصبح اي هامش نقدي عليه فعلا من افعال الترديد لافكار القرون الوسطى كما كان يحلو لسلامة موسى ان يصفها.
اما المقالة الثانية: فمتوازنة في وعي الصلة بي الحاجة الى التقدم وبين مثاله الاوروبي المعروض على العالم، ومنه العرب والمسلمون. يسلم الممثلون لهذه المقالة في الفكر العربي بان نموذج اوروبا في التقدم جذاب وعصي على المقاومة والمنع (المدافعة)، وانه لا مناص للمسلمين من الاخذ به للظفر بما ظفر به الاوروبيون قبلنا من اسباب الانتهاض ورفعة الشأن ومنع النفس لكنهم - في الوقت نفسه - يحذرون السقوط في ايجاد الانطباع بانهم يسلمون بتفوق نموذجه على النموذج الحضاري العربي - الاسلامي، او بمرجعيته الوحيدة في مضمار النهضة. لذلك تراهم يضمرون التصريح باواليات المرجع الاوروبي في التقدم حتى وهم يمعنون في التبشير به، ولعل هذا في جملة اسباب اخرى تفسر لماذا كان يطيب لهم ان يأخذوا حريتهم كاملة، في بعض الاحيان، في استعراض حسنات نموذج التقدم في اوروبا محتسبين اياه - في نفس الوقت - مما حث عليه الاسلام وشدد فأخذ به الغربيون واعرض عنه المسلمون.
هل كان معنى التقدم واحدا عند الحداثيين العرب اذن؟
توزع معنى التقدم، ومعنى الحداثة بين مفهومين ورؤيتين وبالتالي بين خيارين في الكتابة والتأليف. عنى عند بعض منهم نقد التقديم وابداء الشدة في بيان عليته في انتاج حال التأخر اليوم (أعني في العصر الحديث) بما هو نظام يملك تأثيرا على الافكار والاذواق والنفوس والقيم والعلاقات. دشن احمد فارس الشدياق هذا النقد في منتصف القرن التاسع عشر واوصله طه حسين الى ذراه في منتصف القرن العشرين. وعنى عند بعض ثان استلهام النموذج الاوروبي والتبشير والتعريف به، ومنه التعريف بالفكر الحديث: اما عرضا او ترجمة محمود العقاد. وقد يحدث ان يتجاوز المعنيان معا (= نقد القديم والتبشير بالفكر الحديث) لدى المفكر الواحد من هؤلاء، وذلك مثلا حال طه حسين وعباس محمود العقاد.
ثمة جامع بين المفهومين هو الانتصار للحديثن لكن وراء هذا الجامع تباينا في طريقة ذلك الانتصار. الذين اختصروا المعاصرة والتقدم في نقد القديم لم يكونوا مجرد مبشرة بالفكر الاوروبي الحديث، فقد بحثوا عن الحديث في القديم نفسه وحاولوا ان يستخرجوه ويقيموا الدليل على حداثته. هذا ما جربه فرح انطون وهو يقرأ ابن رشد ويستعيد خطابه العقلاني. وطه حسين وهو يحاور ابو عبدالرحمن بن خلدون في الاجتماع وابو العلاق المعري وابا نواس في الشعر. وهو عين ما فعله قبلهما الجاحظ وابو حيان التوحيدي وثورتيهما في اللغة. كل هؤلاء، وهم ينجزون قطيعتهم مع القديم، يملكون ان يلقوا نظرة نسبية على ذلك القديم - لا نظرة عدمية اطلاقية - وان ينصفوا فيه لحظات نوعية ما زال في وسعها ان تتجدد وان تغذي كل مغامرة للتجديد. وفي المقابل، اكتفى المأخوذون بالمثل الاوروبي، الذاهبون الى التسليم بأوحديته المرجعية، بالتبشير والدعوة مقرونين بالنكير على كل مايمت بصلة الىالقدم وقد عنى عندهم القرون الوسطى حصرا. فكان جوهر مقالتهم ان المعاصرة والتقدم انما هما المماثلة والتماهي مع المثال الاوروبي دون تحفظ او دون وعي فارق في الظروف والشروط والملابسات. دشن شبيل الشميل هذا الخطاب التبشري وانتهى امره بعد بضعة عقود الى سلامة موسى.
ربما بدأ التبشيريون في الظاهرة اشد وطأة على الموروث الثقافي والاجتماعي من نقاد القديم. لكن التاريخ المعاصر للفكرة الحداثية اقام دليلا على الاخيرين كانوا عرضة للتشهير والمعاناة اكثر من الاولين: على تطرف هؤلاء التبشيريين اذ لم يتعرض شبلي الشميل او سلامة موسى - مثلا - لمحاكم التفتيش الثقافية، بينما تعرض لذلك طه حسين وعلي عبدالرازق: الاكثر صلة بالقديم والاكثر معرفة بشعابه!