ظواهر جديدة تحكم الحياة السياسية المصرية

محمد عبدالحكم دياب

سحابة الدخان التي أطلقها حسني مبارك من عدة أسابيع، علي شكل تصريحات تفيد استمراره في الحكم مادام فيه قلب ينبض، لم تحجب الجهود الحثيثة التي تتم لتأكيد التوريث، الذي أصبح واقعا لا تخطئه العين، وسحابة الدخان أخذت أشكالا أخري، علي هيئة تكثيف النشاط والحركة في الداخل والخارج، حتي يبدو حسني مبارك حاضرا في الإعلام طوال الوقت، لشد الأنظار بعيدا عن طريقة حكم البلاد، وعن معرفة الحاكم الفعلي لها، بعد أن اختلطت الأوراق والأدوار. فتحول الحاكم الحقيقي إلي حاكم اسمي، وانتقل جمال مبارك من موقع الرئيس الموازي إلي منصب الرئيس الفعلي، ومع ذلك فهذا لم يخف ظواهر تستحق المتابعة والتمحيص، وقد لا تكون قد لفتت نظر كثيرين، في كواليس الحكم، أو في أروقة المعارضة، منها ما صحب عملية التصويت في مجلس الشعب علي إقرار التعديلات الدستورية، من حيث المبدأ، والتعرف علي ما جري يستوجب التطرق إلي طبيعة التصويت في المجلس النيابي، فهناك قاعدتان تتخذ علي أساسهما القرارات، واحدة تعتمد الأغلبية المطلقة (نسبة خمسين في المئة + واحد)، وأخري تقوم علي نظام الأغلبية المقيدة، وهي في مجلس الشعب المصري محددة بنسبة الثلثين، لإقرار المشروعات والمقترحات والتوصيات ذات الأهمية الخاصة، مثل ترشيح رئيس الجمهورية، وعرضه علي الاستفتاء العام، والمقترحات المتعلقة بتعديل الدستور، ومن هنا جاء الحرص الدائم علي الاحتفاظ بنسبة الثلثين، لصالح الحزب الحاكم، وتمثل له قضية حياة أو موت، وهذا الحرص من أهم أسباب تزوير الانتخابات، الذي لا يمكن لنظام حسني مبارك أن يستمر بدونه. وتابع العالم كله التزوير الفاضح، في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات التشريعية الأخيرة، بعد أن كشفت المرحلة الأولي إمكانية ضياع هذه النسبة، وبعد أن أظهرت النتائج إمكانية اجتياز مرشحي الإخوان المسلمين، وعدد آخر من مرشحي المعارضة، حاجز الامان، الذي يهدد الحزب الحاكم في وجوده، وباقي القصة معروف.. استخدام أقصي درجات العنف والترويع ومنع الناخبين، من غير الحزب الحاكم، من الإدلاء بأصواتهم، ووصل العنف حد الاعتداء البدني علي رجال قضاء، من بين من أشرفوا علي سير العملية الانتخابية.

وما جري، في التصويت علي إقرار التعديلات الدستورية، ينذر بتحول قد يقلب ميزان التصويت رأسا علي عقب، ويهدد بجعل الحزب الحاكم حزبا للأقلية النيابية، ليتطابق مع وضعه في الشارع، وإذا ما علمنا أن عدد أعضاء مجلس الشعب هو 454 عضوا، وتوفير أغلبية الثلثين المطلوبة، لتمرير التعديلات الدستورية يقتضي تجاوز سقف 303 صوتا، حتي بدت الأغلبية المريحة، التي يحققها التزوير للحزب الحاكم محل شك، بوصول عدد الأصوات التي أقرت التعديلات إلي 316 صوتا، منها خمسة أصوات لمستقلين، من الناصريين مثل كمال أحمد، وحزبيين كرئيس حزب الوفد محمود أباظة، ومرت الموافقة بنسبة كان من المحتمل ألا تتحقق، وذلك لأن هناك أعضاء أدلوا بأصواتهم بعد إغلاق باب التصويت، وسمح لهم رئيس المجلس، تفاديا للمأزق، بحجة أنهم حضروا قبل إعلان النتيجة، ولولا ذلك ما كان مقدرا للقرار أن يمر بسهولة، وفي النهاية لم تكن هذه الأغلبية مريحة، من وجهة نظر الحزب الحاكم نفسه.

والسؤال هنا عن إمكانية فقدان الحزب الحاكم لأغلبيته البرلمانية المزيفة؟.. هناك مؤشرات تفتح الطريق أمام هذا الاحتمال، لأسباب عديدة، منها أن الأغلبية الحالية غير حقيقية، وترتبط بقوة ونفوذ جهازي الإدارة والأمن، اللذين توليا إدارة المعارك الانتخابية، وحسمها، بناء علي تعليمات مباشرة من حسني مبارك وعائلته، وبينما لم يحصل الحزب الحاكم علي أكثر من 28 في المئة من الأصوات، في الانتخابات الأخيرة. ارتفعت هذه النسبة إلي ما يقرب من 78 في المئة، عن طريق ضم المستقلين، ممن رفض الحزب الحاكم أن يضعهم علي قوائمه، وهبطت هذه النسبة إلي 69 في المئة، في التصويت علي التعديلات. وهذه نقطة يجب أن نتوقف عندها، فمن المتوقع أن تستمر هذه النسبة في الهبوط، بشكل قد يؤدي إلي انهيار الحزب الحاكم. وإذا كانت هذه الظاهرة تثير الجدل، فإن ظواهر أخري قد تفاقم من الوضع، فالضعف الشديد لنظام حسني مبارك، وأصبح ما لديه لا يمثل سوي بقايا قوة، يستمدها من حجم الاستبداد الذي يمارسه، ومستوي الترويع الذي يقوم به، ومن التركيز علي قوة المال، وتأثير الفساد والنهب علي ضعاف النفوس، ومن عدم وحدة وتماسك القوي القادرة علي التغيير الحاسم، وأعني القوي الظاهرة، أما الأخري، غير المعلومة فهي في علم الغيب.

وحصْر نطاق الثروة وتوزيع الغنائم المالية والاقتصادية ضمن دائرة ضيقة للغاية، قضي علي أنصار النظام.. لم يبق له إلا كبار رجال الأعمال والمحتكرين، المرتبطين مباشرة بالإدارة الأمريكية وبالدولة الصهيونية، وهم الذين يناصرون الرئيس الموازي ، ويعملون علي تأييده في وراثة الحكم، ويمثلون أقلية الأقلية. ومن يزور مصر في الظروف الراهنة، يجد أن الدعوات المؤيدة للتوريث التي كانت خجولة، تعلن عن نفسها بسفور، تقودها جماعة تطلق علي نفسها أحرار ، تؤيد جمال مبارك رئيسا للبلاد!!.

ولا ينفصل هذا عما يحدث علي الخريطة السياسية والاجتماعية، حيث تآكلت القاعدة الاجتماعية لحكم حسني مبارك، فرغم تصريحاته حول مراعاة البعد الاجتماعي، والحرص علي محدودي الدخل!!، يأتي مشروع قانون الوظيفة العامة ليكشف بشكل واضح، النوايا المبيتة لتصفية جهاز الدولة. وبعد أن كان قانون شؤون العاملين بالدولة، المعمول به منذ الستينات، يعطي الوظيفة العامة (الحكومية) صفة الدوام، من أجل استقرار جهاز الدولة، يأتي هذا المشروع ليجعل من الوظيفة الحكومية نوعا من السخرة والعبودية المستترة، ففضلا عن أن هذه الوظيفة أضحت مؤقتة، فإن نظام العمل بنظام العقود، الذي يتبناه المشروع بلا ضمانات، ولما كان هناك أربعمئة ألف موظف في جهاز الدولة، يعملون بنظام العقود، منذ سنوات. فإن الإنسان ليعجب عندما يري خريجا جامعيا يعمل مع الدولة بعقد سخرة، قيمته ستون جنيها مصريا، أي في حدود عشرة دولارات شهريا، في وقت يعين فيه كبار المسؤولين ورجال الأعمال أقاربهم ومعارفهم، في جهاز الدولة، بآلاف الجنيهات، ويوزع كبار المسؤولين الحكوميين عوائد الجباية، التي يتم تحصيلها، بالملايين، كرسوم تأمين وخدمة وتطوير ونظافة، يوزعونها علي أنفسهم، بنظام يعتبر الأول من نوعه في العالم. نظام يتيح للمسؤول أن يستولي علي أموال محصلة لأغراض عامة، جهارا نهارا، لحسابه. فالوزراء والمحافظون، ورؤساء مجالس المدن والأحياء، أما رجال الأمن، فهم يحصلون علي عشرات الآلاف من الجنيهات. وإذا ما عرفنا أن عقود السخرة في المشروع تتغاضي عن حقوق والتزامات الدولة تجاه موظفيها، وهذا له بالغ الأثر علي الدولة، ويضرب جهازها في مقتل، وهو أحد أهم وسائل الاندماج والانسجام في مجتمع كالمجتمع المصري.

وتتأكد عملية تآكل القاعدة الاجتماعية والسياسية للحكم بانحراف سياسة الدعم، الذي تقدمه الحكومة، عن مسارها الصحيح، وحسني مبارك لا يقول الحقيقة وهو يروج لأكذوبة ذهاب الدعم لمستحقيه، للتغطية علي طريقة توزيع أنصبة الدعم، فبينما تعتمد الموازنة أقل القليل لدعم رغيف الخبز، تقدم أربعين مليار جنيه دعما لرجال الأعمال، أي عشرين ضعف الدعم المقدم للرغيف، وقد شغلت عملية توفيق الأوضاع الدستورية الناس عن عمليات توفيق أخري لأوضاع اقتصادية ومالية، يقوم بها الوزراء كل في مجاله. فمن أجل الاستثمار تباع البلد بما فيها وعليها من موارد وثروات، ويجري تنفيذ خطة الرئيس الموازي بتمكين رجاله من احتكار أرض مصر، ولذا جري ايقاف تسهيلات بيع الأراضي السكنية بالمدن الجديدة، فالمساحات الصغيرة (من مئة إلي ألف متر مربع) التي كانت تباع بالتقسيط، أمر ببيعها في مزادات للمضاربين، لتأسيس هذا الاحتكار الجديد، المناظر لاحتكار الحديد. ومنذ أن أطل احتكار أراضي الإسكان برأسه، تضاعفت الأسعار، وخرجت شرائح عريضة من دوائر المستفيدين، ومن المتوقع أن يفاقم هذا من أزمة السكن، أما المساحات الكبيرة، وتقدر بآلاف وملايين الأمتار المربعة، لا تخضع للمزاد، وتباع عن طريق مظاريف مغلقة كثيرا ما ترسو علي عناصر مختارة.

ومن جانبه يقوم وزير الزراعة بإعادة الزراعة الإقطاعية، وشكل لذلك مجلسا من رجال الأعمال، بدعوي تحديث الزراعة المصرية، وهو ما اعتبره الخبراء مقدمة لإلغاء وزارة الزراعة، وتحويلها إلي إدارة تابعة لوزارة الصناعة والتجارة، وهدف المجلس الاهتمام بالزراعة الاقطاعية الحديثة، بهدف التصدير، والقضاء علي صغار المزارعين ومتوسطي الملاك، وكثير منهم في حاجة لدعم الدولة، وإذا ما علمنا أن الزراعة تمثل نشاطا اقتصاديا يستوعب نصف المصريين، ملاكا ومزارعين وأجراء، فإن عودة الزراعة الإقطاعية يفيد كبار الملاك فقط، ويؤكد انحياز عائلة مبارك لهم، ويمثل موقفا عدائيا ضد الطبقات الشعبية، فتزيد القاعدة السياسية والاجتماعية ضيقا وانحسارا، خاصة أن وزير الزراعة يقوم بتصفية ما تبقي من نظام تعاوني ساد مصر في مجالات الزراعة والصناعات التقليدية والصغيرة لحقبة طويلة من الزمن. ومن المتوقع أن تكون الخبرة الصهيونية، عماد خطة الزراعة الإقطاعية استكمالا للنهج الذي استقر في وزارة الزراعة من زمن يوسف والي.

وعلي جبهة أخري يقوم الذراع الأيمن لجمال مبارك، بخصخصة الحزب الحاكم.. يستضيف القيادات الوسطي في الحزب الحاكم، ويغدق عليهم في أفخم فنادق ضاحية 6 اكتوبر، من أجل أن يؤكد نصيبه في غنيمة الحكم، بعد أن نجح في استبعاد رجال الحرس القديم، وعلي رأسهم زكريا عزمي، وتشير مصادر موثوقة أن هذه الاستضافة هي من أجل وضع أسس لحزب جديد بعد أن عقد الصراع داخل الحزب الحاكم مشكلة التوريث المستعصية، ومن يطلع علي حديث صفوت الشريف الأخير لصحيفة المصري اليوم ، سوف يتأكد أن الحزب انقسم علي نفسه وقضي الأمر، ولهذا حديث آخر.