إياد أبو شقرا
فوجئ البعض بأحداث laquo;الخميس الأسودraquo; في بيروت. لكن الرئيس نبيه برّي، حتماً ليس منهم. فقد حذّر برّي من الفتنة قبل أشهر عندما طُلِب منه عرض مبادرته laquo;التشاوريةraquo; المشروطة، وبالتالي، المحكومة بالفشل سلفاً.
يومذاك قال برّي صراحةً ... اللهم فاشهد إني بلّغت! ولعله ـ وهو السياسي الذكي ـ كان يدرك في قرارة نفسه أن المستقبل يحمل نذُراً قاتمة للوطن، تماماً كالنذر القاتمة لمستقبله كرجل دولة معتدل ... سيخسر باكراً إذا خَذل طائفييه، وسيخسر على المدى الأبعد إذا سار معهم.
أيضاً المفتي الشيخ الدكتور محمد رشيد قباني لم يفاجاً. فهو أيضاً حذّر غير مرة، وبوتيرة تصاعدية من وصول لبنان إلى laquo;الخط الأحمرraquo;، لكن نيات متغطرسة تجاهلت باستكبار غريب وجود laquo;الخط الأحمرraquo;. كذلك، ثمة ساسة ورجال دين عقلاء، أتقياء، من مختلف الطوائف، شعروا بالخطر الزاحف، ونبّهوا إلى أن تجاهل صوت الضمير والعقل سيكبّد البلاد ما لا طاقة لها به. وبأن نهج التخوين وهدر الدم والتحدي ... باهظ التكلفة، ولا أدلّ على هذه التكلفة من laquo;سوبر ماركتraquo; المأساة العراقية المتتابعة فصولاً.
مع هذا، ارتأى البعض الهروب إلى الأمام سعياً وراء مزيد من العرقلة والتصعيد.
واليوم بعد أسبوع laquo;أسودraquo; احتار اللبنانيون في تحليل تبعاته، يبدو الوضع كما يلي من جانب laquo;حزب اللهraquo;، الذي هو القوة الدافعة لحملة الانقلاب على الحكومة، والرافعة لـlaquo;كومبارسraquo; الحملة الانقلابية:
laquo;حزب اللهraquo; يضع الشعب اللبناني عملياً أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول، الرضوخ لهيمنته (أي laquo;حزب اللهraquo;) على البلاد. والثاني، تحميل الآخرين مسؤولية أي حرب أهلية يمكن أن تقع في حال رفضوا الهيمنة.
فالحزب يؤمن بأن شرعية سلاحه مسألة laquo;إلهيةraquo;، أي فوق الدولة وفوق القانون، ولا شأن لباقي اللبنانيين بها. في حين أن سلاح الآخرين إذا ما تجرأوا على رفعه ضد مشروعي الهيمنة والانقلاب ... laquo;سلاح إسرائيليraquo;! وبناء عليه، إذا كان القرار الإلهي يقضي باستخدام السلاح أو تهديد الآخرين به ... يصبح laquo;الحق على الآخرينraquo; إذا اختاروا الدفاع عن أنفسهم أو عن حقهم في الوطن.
المشكلة مع هذا المنطق، أن الحزب يفهم أن لبنان لا يحكم إلا بالتوافق ... لا التسلط. والمضحك المبكي أن القشرة الشفافة للمحاولة الانقلابية التي يقودها الحزب هي بالذات ذريعة laquo;التوافقraquo;. غير أنه في المقابل يرفض الاعتراف بشرعية الحكومة (إلا إذا استطاع تعطيل قراراتها) وشرعية البرلمان (حيث يرى laquo;الأغلبية وهميةraquo;) ويحرص على عرض عضلاته التحشيدية laquo;الديموغرافيةraquo; في الشارع كلّما عنّ له الابتزاز أو الضغط من أجل مطلب.
أمر آخر، جدير بالتنويه، هو أن قيادة laquo;حزب اللهraquo; تفهم جيداً التركيبة الطائفية للبنان ... التي يشكل الحزب نفسه نموذجاً راديكالياً فيها. وتتذكر قيادة الحزب كيف وقف البطريرك الماروني بعد جريمة 14 فبراير (شباط) 2005 معارضاً إسقاط رئيس الجمهورية في الشارع، احتراماً منه لأعلى منصب ماروني في الدولة اللبنانية من دون أن يكون بالضرورة مؤيداً لمن يشغله. وهي اليوم ترى رفض مفتي الجمهورية بالمطلق إسقاط رئيس الحكومة المسلم السنّي في الشارع، فلماذا لا تحترم رغبته ومشاعر طائفته، وتعود إلى طاولة الحوار؟
لقد اختارت قيادة الحزب حتى الآن خوض لعبة طائفية خطيرة في تداعياتها المحتملة. فهي في محاولة للتمويه على الهدف الانقلابي، وإرباك الساحة السنيّة وlaquo;تحييدهاraquo; إذا أمكن، تتهم أطرافاً أخرى ـ غير سنيّة ـ بالتحريض الطائفي والمذهبي. والقصد هنا من دون لف أو مواربة اتهام وليد جنبلاط (الدرزي) وسمير جعجع (الماروني) بالتحريض. ولكن هذه اللعبة المقصود منها التستر على غاية أخطر أضحت مكشوفة. والمواطن اللبناني قد يكون كيدياً،... وربما يكون ذا ذاكرة انتقائية،... لكنه حتماً ليس بالغباء الذي يتوهمه بعض جهابذة التخطيط السياسي والإعلامي في الحزب. فلا جنبلاط كان حاضراً laquo;تحكيم صفينraquo;، ولا جعجع أفتى بجواز إعدام صدام حسين يوم عيد الأضحى!
إن لبنان يواجه شبح الفتنة منذ خريف 2004 عندما أفلت الوزير السابق مروان حمادة من الموت بأعجوبة في مستهل مسلسل الاغتيالات. ويومذاك ارتسمت ملامح ما نعيشه الآن.
فمنذ ذلك الحين سرت همساً شائعات عن laquo;مؤامرة نسجت خيوطها في جزيرة سردينيا لإخراج السوريين من لبنانraquo;. والصحيح هو إخراج لبنان من laquo;القبضة الأمنية للنظام السوريraquo;. على اعتبار أن أي نظام مهما علا شأنه لا يمكن أن يختصر وطناً، ولا سيما إذا كان هذا الوطن سورية العروبة والتاريخ والحضارة.
في أي حال، وضعت الشائعات الرئيس الراحل رفيق الحريري على رأس laquo;المتآمرينraquo;. وزكّت هذه الشائعات laquo;وصلات ردحraquo; خرقاء بهذا المعنى من نفر جعل منهم laquo;النظام الأمنيraquo; وزراء في غفلة من الزمن.
وحصلت كارثة اغتيال رفيق الحريري، وخلّفت الزلزال السياسي الذي خلّفته.
أصحاب النيات السليمة ظنوا أن هذه الكارثة ستعلّم البعض درساً في مخاطر هدر الدم، وبخاصة إذا كانوا أبرياء ... وكان العدوّ هو الذي استغل التوتر الحاصل بين دمشق والحريري لارتكاب الجريمة ولصقها بهم.
هذا ما يقوله المنطق.
غير أن ما حصل كان العكس.
فبعد قتل الحريري يتضح وجود رغبة جامحة بالقضاء على كل ما فعله. وعلى تصفية كل تركته السياسية والاقتصادية والإنمائية. وعلى صيغة التوازن السياسي الوفاقي التي أنهت محنة الحرب الأهلية اللبنانية بين 1975 و1990.
فهل يستدرك اللبنانيون الكارثة التي اقتربوا منها خلال الأيام الأخيرة أكثر من أي وقت مضى منذ انتهاء تلك الحرب؟
وهل يعي الجيران العابثون بفتيل التفجير اللبناني خطورة ما تفعله أيديهم وتطلقه ألسنتهم؟
وهل يتمكن عقلاء عالمنا العربي والإسلامي من احتواء الفتنة الأكبر قبل أن تستفحل وتمتد من العراق إلى الدول المجاورة؟
التعليقات