د. سعيد الشهابي

عندما يلتقي العلماء والمفكرون والمثقفون علي طاولة نقاش واحدة، تتلاشي عادة الاختلافات ومعها الخلافات، وتظهر المشتركات والجوامع، ويتم تبادل الكلمات الودية الطيبة، ويبدو الجميع علي قلب واحد. ولكن ما ان يبتعد هؤلاء عن بعضهم، حتي تظهر الخلافات وتبرز الثغرات في المواقف الفكرية والمبدئية. ماذا يعني ذلك؟ ثمة عدد من الامور السلبية يجدر استحضارها قبل عقد اللقاءات والمؤتمرات لمنع تحولها الي منابر غير ذات جدوي عملية. اولها ضرورة التخلي عن النفاق الفكري والسياسي وذلك بعدم اظهار مواقف مخالفة للقناعات الداخلية، وثانيها إضمار النوايا الحسنة من قبل الجميع والابتعاد عن أساليب التربص والبحث عن الهفوات، وثالثها استشعار مخاطر التشتت والفرقة واعتبار ذلك طريقا للضعف والانهيار، رابعها: ادراك حقيقة مهمة وهي ان المشاركين في مثل هذه اللقاءات مختلفون في المرجعيات الفكرية ولذلك اقتضي جمعهم للبحث عن القواسم المشتركة. خامسها: ان القطيعة عامل في تعميق الشكوك والخلافات، وبالتالي فلا بد من تواصل منهجي للحوار والتفاهم. وسادسها ضرورة تعرف الفرقاء علي افكار بعضهم ومعتقداته وعدم محاكمته علي الظنون والشبهات والاتهامات المتداولة علي غير علم.
وحسنا فعلت كلية الشريعة بجامعة قطر عندما عقدت مؤتمر التقريب ووحدة الامة الاسبوع الماضي بالعاصمة القطرية، فقد كان ذلك المؤتمر ضرورة فرضتها الظروف التي تعيشها المنطقة في ظل تنامي ظاهرة الاستقطاب المذهبي وما قد يترتب عليها من تمزق اوسع في اوساط الامتين العربية والاسلامية. ان من السهولة بمكان اثارة الخلافات الدينية، ولكن من الصعوبة احتواء آثارها وما يترتب عليها من آثار دموية مدمرة. لقد كان جميلا ان يجتمع علماء الامة ومفكروها في مكان واحد، بعد انقضاء فريضة الحج التي يفترض ان تكون جامعة لهم وعنوانا لاشتراكهم في أصول العقيدة. وكان جميلا ايضا ان يشترك في اعداد المؤتمر قطبان اساسيان من أقطاب الامة وهما ايران (ممثلة في مجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية) ومصر (ممثلة بجامعة الأزهر). لقد كان انعقاد ذلك المؤتمر حدثا مهما وضروريا، ولكن الأهم من ذلك ان تؤدي نتائجه الي واقع أفضل علي صعيد العلاقات بين المكونات البشرية لأمة المسلمين. ويفترض ان يكون المشاركون فيه علي مستوي من المسؤولية تدفعهم لتبليغ رسالته الي جماهيرهم، ومنع ظاهرة الاحتقان في المشاعر والعلاقات في ما بينهم. وكان واضحا من خلال مداخلات المشاركين علي مدي الايام الثلاثة وجود رغبة بين الجميع في تحقيق وئام اجتماعي بين المسلمين علي تعدد رؤاهم الفقهية، وعدم تحويل الاختلافات الي شقاق اجتماعي وسياسي. كما لوحظ حماس المشاركين لاظهار حسن النوايا من خلال تأكيد المشتركات والتقليل من شأن القضايا الخلافية، والابتعاد عن الاثارات العاطفية المؤسسة علي منطلقات عقيدية مرتبطة بالانتماء المذهبي الخاص. أجواء المؤتمر وفرت دفعة كبيرة للجهود المبذولة لمنع حالة الاستقطاب المذهبي الآخذة في التوسع الأفقي والعمودي، وتهديد السلم الديني لدي الأمة للحؤول دون نهوضها وتحقيق قوتها الذاتية في مجالات الفكر والتماسك الاجتماعي والنماء العلمي والسياسي.
ليس غريبا القول ان مؤتمر الدوحة جاء علي خلفية الأزمة العراقية التي تسعي اوساط ظاهرة وخفية لتوسيع دائرتها والتنظير لها كقضية تتجاوز حدود العراق، وترتبط بمنطلقات فكرية ودينية تتجاوز الحدود الجغرافية لذلك البلد. كما لم يعد خافيا علي احد حالة التململ في اوساط الواعين من ابناء امة العرب والمسلمين بسبب تلك الازمة، التي تهدد بالامتداد الي البلدان الاخري، ضمن مخطط لا يمكن ان يكون بريئا او عفويا. فقد اصبح العراق ساحة فحص لمدي واقعية خطط التقسيم والتفتيت في اثر ظاهرة الصحوة الاسلامية التي كانت، علي مدي الثلاثين عاما الماضية، دافعا لبلورة هوية هذه الامة بعيدا عن املاءات الشرق والغرب. فاذا نجحت سياسة التقسيم في العراق، فلن يكون مستغربا تكرارها في اغلب البلدان الاسلامية الكبيرة مثل ايران وتركيا وسورية والسعودية والسودان والجزائر واندونيسيا وباكستان. فهذه البلدان انما تقوم علي اسس من توافق شعوبها التي تختلف في ما بينها عرقيا ومذهبيا. اما لو استطاع العراق ان ينهض كوحدة بشرية تشمل المسلمين (شيعة وسنة) وغيرهم، وتضم العرب والاكراد والتركمان، فسوف يكون الأمر مشجعا للدول الاخري علي التماسك وتكريس مبدأ الحوار الداخلي، ومخيبا لآمال الجهات الخارجية التي لا يروق لها تعزز روح الوحدة والتقارب بين المسلمين.
كما ان ازمة العراق، فيما لو استمرت، ستؤثر سلبا علي العناوين الفكرية الواسعة التي طرحها العقلاء والمخلصون من ابناء الامة. وفي مقدمة هذه الشعارات: الوحدة الاسلامية. فأية وحدة ستقوم علي أشلاء ضحايا الاقتتال العرقي والطائفي؟ وأي عاقل يجرؤ علي رفع شعار الوحدة عندما يصبح الدم القاني قد لون العلاقات بين مكونات الامة؟ واذا كان مفهوم الدولة الاممية قد تلاشي بسبب هذا الاقتتال المجنون، فهل سيكون هناك مجال لاستمرار الدولة القطرية نفسها؟ هذه الدولة التي قامت المواطنة فيها علي اسس من الاتفاق علي مبادئ التفاهم والحوار والتراضي بعيدا عن الخصوصيات المذهبية والدينية، كيف تستطيع الاستمرار اذا تعمقت فيها توجهات الانفصال والاختلاف والشقاق؟ وما معني الدين في مثل هذه الدولة اذا كان سببا للشتات والاقتتال؟ فالمفترض ان يكون الدين عامل بناء للفرد والمجتمع، وعنصر تفاعل متواصل يهدف لتعميق القناعة بالعيش ضمن منظومة سياسية واحدة توفر الامن للجميع. اما عندما يتحول الي قوة مدمرة تدفع المواطنين الي الاحتراب علي اساس الخلافات المذهبية، فسوف يتهمش دوره تدريجيا بعد انجلاء المعركة. وليس سرا القول ان من بين اسباب تهميش دور الدين في حياة اوروبا حالة الاقتتال بين مكوناته المذهبية في العصور الوسطي، والحروب التي دارت رحاها بين أتباع الكنائس المختلفة بلا هوادة. وما ان انجلت المعارك حتي تراجع دور الدين في حياة الناس، وانتشر الشعور بعدم جدواه كقوة قادرة علي تماسك الدول ووحدتها.
ازمة العراق اذن، يمكن ان تكون نذير خير فيما لو استطاع علماء الامة ومفكروها ومثقفوها افشال المخططات الهادفة لتمزيقه علي اسس عرقية ومذهبية. فلو سمح للتمايز المذهبي بان يكون عامل الحسم في المعارك الدائرة حاليا، فسوف يتمزق العراق علي اسس مذهبية اولا، ثم علي اسس قومية. ولن تسلم البلدان المجاورة من خطر هذا التوجه، بل سيدفع كل منها ثمنا باهظا لهذه الظاهرة. ان العبرة في النظم السياسية التي تحكم بلداننا ليس انتماؤها المذهبي او الديني، بل مدي انتمائها الي الحضارة والتمدن السياسي ام الي انماط الاستبداد والديكتاتورية. والتاريخ المعاصر لهذه الامة كفيل بالتوضيح. فحكومة طالبان مثلا قامت علي اساس ديني، ولكنها لم تستطع ان تحظي بثقة المواطنين الافغان، وتصدي لها معارضون ينتمون الي مذهبها الديني نفسه. ولو استمرت في الحكم لحدثت في افغانستان هزات سياسية علي اسس دينية ومذهبية، ولأصبحت باكستان، هي الاخري، مهددة بتلك الهزات. باكستان تعاني اليوم من محاولات خطيرة لتحريك الاختلافات المذهبية وجعلها عنوانا لاضطرابات داخلية خطيرة، كمقدمة لتبرير استهدافها من القوي الغربية التي ترفض ان تكون باكستان دولة نووية. ويكشف كتاب جديدة بعنوان باكستان علي خط النار للكاتب الصحافي، زاهد حسين، الارضية الخطيرة لاحتمالات الصراعات المذهبية والعرقية في هذا البلد. ولا يخفي الرئيس الباكستاني، برويز مشرف، قلقه من تنامي الظاهرة المذهبية وتهديدها العالم الاسلامي، فها هو يخاطب طلبة الجامعة الاسبوع الماضي قائلا: ما لم نتحرك مجتمعين فستكون هناك حرب طائفية في العالم الاسلامي . وما يحدث في السودان شكل آخر من اشكال التوتر، يقوم علي اساس عرقي بين ابناء الملة الواحدة. وثمة امر شبيه في تركيا والجزائر. اما ايران، فهي الاخري، واجهت في العقود الثلاثة الماضية، محاولات التفتيت علي اسس مذهبية وقومية. والسعودية هي الاخري لن تكون بمأمن من التفتيت علي اسس دينية او مناطقية، خصوصا مع غياب حالة الوئام بين اقاليمها وشعور اهاليها بالغبن بسبب التهميش السياسي والاداري.
في حالة التهييج العاطفي والشعوري، يغيب دور العقل، ويتم التعاطي مع الازمات وفق املاءات اللحظة، وهذا امر لا يستقيم مع الرغبة في اقامة وئام اجتماعي وسياسي دائم، ولا يحقق مصلحة الامن الاستراتيجي. وما تشهده المنطقة اليوم امر خطير جدا لانه استجابة لتوجيهات مجهولة المصادر، تهدف لتحريك المشاعر الكامنة علي اسس عرقية ومذهبية. وفي الوقت الذي يدرك فيه ذوو العقول من ابناء هذه الامة خطر الاستجابة لهذه التحركات، فانهم عجزوا حتي الآن عن اتخاذ مواقف قيادية شجاعة ضد هذه التوجهات، وانساق معهم الشارع العربي، خصوصا مع وجود تجييش متواصل من وسائل الاعلام غير المسؤولة. المطلوب اذن ليس الاقتصار علي تبادل التصريحات الودية خلال اللقاءات والمؤتمرات، مع الاستمرار في الحراك السياسي وفق املاءات التحريض الطائفي والعرقي. فالمشكلة، كما تمت الاشارة، ليست في التصريحات المخملية، بل في المواقف السوداء التي تنطوي علي مشاعر الكراهية العمياء، يعيدا عن مصلحة الاديان والاوطان والناس. فليس معقولا ان تتمخض ظاهرة الصحوة الاسلامية التي بدأت قبل اكثر من ثلاثة عقود عن حروب داخلية تنطلق علي الجهل وتجييش العواطف علي اساس ذلك الجهل، بدلا من التصدي لمخططات اعداء الامة الهادفة لتركيعها وابقائها تحت الهيمنة والاحتلال. وكما كشف مؤتمر الدوحة، فان المسلم، اذا تركت له حرية الخيار، لن يستهدف اخاه المسلم الذي يختلف معه في بعض القضايا غير الاساسية، ولن يشعر بالضغينة له. ولكن المشكلة عندما تعطي قيادة الامة للمتطرفين والجهلة، فتغيب الحكمة عن المواقف، ويتم استبدال القضايا الاستراتيجية بأمور هامشية، ويتم محاكمة الغير، ليس علي اساس ما يقره، بل علي اساس ما ينسب اليه، ويستبدل اليقين بالشك، ويصبح الجهلاء قوامين علي العلماء. اظهر مؤتمر الدوحة الرغبة المتبادلة بين ممثلي المذاهب الاسلامية من سنة وشيعة واباضية وزيدية، لتفادي الاشكالات والاختلافات، ولكن هل يعني ذلك انعكاس تلك الرغبة في الممارسات اللاحقة؟ والتخلي عن التصريحات والتصرفات الاستفزازية والاتهامات المتبادلة علي غير يقين؟
بعض العراقيين استجاب للدعوات المذهبية، وحمل السلاح ضد اخوته في الدين والوطن علي اسس محاكمة النوايا والمعتقدات، واستبدلت مبادئ القصاص العادل بقيم الانتقام غير المحدود والقتل علي الهوية. وعندما يلتقي رموز التيارات السياسية والدينية العراقية، يتبادلون التحية والود، ويتفقون علي اسس ومبادئ للوئام والوفاق، تنسجم مع القيم الانسانية والدينية، ولكن هذه الاتفاقات سرعان ما تسقط امام اول امتحان. ففي شهر ايلول (سبتمبر) الماضي، وقع علماء السنة والشيعة العراقيون وثيقة مكة التي تدعو الي احترام السلوك المذهبي والطقوس الشرعية للطرفين والابتعاد عن العنف والتجريح والمساس بالحرمات لديهما. ولكن سرعان ما تحولت الي وثيقة تاريخية بدون أثر واقعي علي مسيرة العنف الطائفي في ذلك البلد. فما اسباب ذلك؟ لماذا تتوفر الاستجابة لدعوات التفاهم والتقارب التي كثيرا ما ادت الي اتفاقات موقعة، وتغيب الرغبة في تنفيذها؟ أهو عجز بشري؟ أهو استجابة آنية لنداءات منطقية، تفتقر الي القناعة الراسخة بقيمتها وضرورتها؟ من الذي يزين للعراقيين أساليب القتل علي الهوية والمذهب ويخيفهم من بعضهم البعض حتي من انفسهم؟ وما جدوي دعوات التقارب اذا بقيت القلوب والنفوس متباعدة ومتنافرة؟ لقد انطلقت قبل نصف قرن من مصر دعوات التقريب بين المذاهب الاسلامية، وكانت لها آثار كبيرة انعكست ايجابيا علي علاقات المسلمين في ما بينهم، ولكن الي أين وصلت تلك الدعوات والمبادرات؟ ولماذا تعجز امة المسلمين اليوم عن بلورة مواقف مشابهة لحقن دماء المسلمين واعادة قافلة الصحوة الي جادة الطريق بعد ان تجمعت الاحزاب لحرفها؟ انه لأمر جميل جدا انطلاق المبادرات لعقد المؤتمرات والندوات بهدف التقريب بين المسلمين، ولكن الاهم من ذلك توفر الرغبة الصادقة في التقارب، ونبذ الاستقطاب المذهبي علي اسس من الجهل والعصبية والثأر والانتقام والاقصاء. مطلوب من الجميع استعداد نفسي للتعايش السلمي المتبادل علي اسس من الاحترام والود بدلا من الكراهية والتكفير. اننا بحاجة لتربية جديدة لتحقيق ذلك، وعلماء المسلمين ومثقفوهم وكتابهم، يتحملون الشطر الاكبر من المسؤولية.