د. سعد الدين إبراهيم
خلال جولتنا الدراسية، مع طلبة الجامعة الأمريكية وباحثي ابن خلدون، بكل من لبنان والأردن وفلسطين وإسرائيل، التقينا بالعديد من الشخصيات العامة، وقيادات الأحزاب والمجتمع المدني. وكان بين هؤلاء الرئيس اللبناني أميل لحود (12-1-2007)، ورئيس المجلس النيابي السيد نبيه بري، ورئيس الوزراء الأسبق سليم الحص، ووزير المالية والدفاع الأسبق إلياس سابا، ومدير عام مركز دراسات الوحدة العربية، الدكتور خير الدين حسيب، الذي شمل الوفد بكرمه وضيافته، وأسهم في ترتيب أهم اللقاءات وأكثرها أهمية وحساسية، وخاصة مع قيادات حزب الله، سواء في الضاحية الجنوبية، أو قرب خطوط الالتماس بين لبنان وإسرائيل. ولمس الطلاب بأيديهم الأسلاك الشائكة علي الحدود، ورأوا بأعينهم حجم الدمار الذي خلفته الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، التي صمد فيها حزب الله لمدة ستة أسابيع متصلة، هي الأعنف والأكثر دموية في تاريخ صراع المائة عام. كما سمعوا بآذانهم ملاحم البطولة والفداء، وكذلك مآسي التشرد والشقاء.
وكان الأبرز في جولتنا اللبنانية هو اللقاء مع السيد- حسن نصر الله أمين حزب الله، الذي قاد معارك تلك الحرب السادسة، وأصبح في نظر مئات الملايين من العرب والمسلمين بطلاً أسطورياً. وتأكدت منزلته من خلال استطلاعات الرأي العام، وضمنها ما أجراه مركز ابن خلدون علي عينة من المصريين، خلال صيف 2006، وتقدم فيها الرجل علي ثلاثين شخصية عامة أخري في العالمين العربي والإسلامي، شملت رؤساء دول وزعماء أحزاب وحركات إسلامية وعلماء وأدباء من أصحاب جائزة نوبل.وكانت الإجراءات الأمنية التي تحيط بالسيد حسن نصر الله، ضعف تلك التي رأيتها مع قادة دول ورؤساء التقيت بهم، شرقا وغرباً، علي امتداد نصف قرن من جمال عبد الناصر إلي أنور السادات وحسني مبارك، إلي الملك فيصل والملك حسين وصدام حسين وحافظ الأسد.
ولم يكن ذلك رغبة من الرجل أو مساعديه في إضفاء الأهمية عليه. ولكن خوفاً من مساعديه علي حياته. فقد صدرت موافقة من البيت الأبيض الأمريكي للمخابرات المركزية بالتخلص منه طبقاً لما نشرته صحيفة التلغراف اللندنية بتاريخ 10-1-2007، أي قبل لقاءنا بيوم واحد. هذا فضلاً عن استهدافه مبكراً من الأجهزة الإسرائيلية (الموساد). وليس هنا مجال التفصيل في الإجراءات الأمنية، أو رحلة الذهاب والإياب. وربما يأتي وقت للحديث عن هذا الأمر مستقبلاً. كان الرجل رغم كل الضغوط والمعارك التي يخوضها دولياً وإقليمياً ولبنانياً في غاية السكينة، والمودة، والدفء. ولم تفارقه الابتسامة طوال ساعتين من اللقاء، بل وأطلق عدة قفشات وضحكات أثناء الحديث. ولم يتردد السيد حسن نصر الله في الإجابة علي أي سؤال، وإن كان قد طلب في مناسبتين فقط ألا ننقل عنه ما صرّح به، إلي أن يفعل ذلك بنفسه، وبعد الرجوع إلي مجلس شوري حزب الله. وطبعاً، سأفي بوعدي له. كان الهم الأثقل علي قلوبنا نحن العرب من أعضاء الوفد احتمالات تدهور الوضع علي الساحة اللبنانية الداخلية.
وكنت قد عبّرت عن نفس هذه المخاوف في مقال لي نشر بصحيفة quot;الحياةquot; بعنوان quot;بين حسن نصر الله وعبد الناصر: هل يعيد التاريخ نفسه؟quot; (14-12-2006) بعد إعلان حزب الله وحلفائه لاعتصام مفتوح في أكبر ميادين بيروت وهما ساحتا الشهداء ورياض الصلح، لإسقاط الحكومة اللبنانية التي يرأسها السيد فؤاد السنيورة، وتتمتع بأغلبية الثلثين تقريباً في مجلس النواب. ومن الواضح أنه لم يكن فقط قد أطلع علي المقال ولكن كان أيضاً جاهزاً لتنفيذ معظم ما جاء به، وعلي نحو ما سألخصه في السطور التالية:
1 لا، لا وجه للمقارنة بينه وبين عبد الناصر 1956، التي خرج منها منتصراً سياسياً ومعنوياً، بعد صموده للعدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي. ويقول نصر الله بتواضع جم، وغير مصطنع quot;أنه شتان ما بين عبد الناصر وأي شخص آخر معاصر. وأنه كان بالفعل وقت معركة السويس، قد أنجز ثورة خالدة، وأصبح رئيساً لأكبر دولة عربية. أما هو فإن قدراته وطموحاته لا تتجاوز الساحة اللبنانية.
2 لا، ليست لديه طموحات لزعامة إسلامية، أو عربية، أو حتي لبنانية. فكل أجندته تنحصر في رفع الظلم عن أبناء طائفته الشيعية في لبنان. وهذا يغير تكريس نديتها ومشاركتها مع بقية أبناء لبنان في الثروة والسلطة والمكانة داخلياً، وتحريرها من العدو وغوائل الاحتلال الإسرائيلي خارجياً.
3 إذا كان كذلك، فلماذا قام مقاتلوا حزب الله بأسر جنديين إسرائيليين، وقتل آخرين، وإعطاء إسرائيل ذريعة لشن حرب لم تبق ولم تذر علي كل لبنان، بعد أن كانت إسرائيل قد انسحبت من الجنوب اللبناني عام 2000؟ نعم انسحبت إسرائيل من معظم الجنوب اللبناني، بعد مقاومة مسلحة استمرت 18 عاماً، ولكنها استبقت حوالي ألف أسير لبناني في سجونها، لم تفرج عنهم إلي تاريخه، وظلت تحتل quot;مزارع شبعاquot; التي لا يعرف كثيرون خارج لبنان، أنها منابع عدة أنهار، يعتمد الفلاحون الشيعة في الجنوب علي مياهها لري أراضيهم ودوابهم. وكان أسر الجنديين، هو لمبادلتهما مع الأسري اللبنانيين في سجون إسرائيل. وهي ممارسة سبق أن قام بها حزب الله. ومع ذلك يجوز أننا أخطأنا في حساباتنا، وجل من لا يخطئ. وقد اعتذرنا عن ذلك للشعب اللبناني، ودفعنا ضريبة دم غالية، ولم نتردد عن التضحية بأبنائنا في سبيل قضيتنا.
4 ولكن، يا سيد حسن نصر الله، ألا تتصرفون بذلك مثل دولة خاصة بكم، داخل الدولة اللبنانية؟ نعم، قد يبدو الأمر كذلك. ولكن حينما تعجز الدولة عن القيام بواجباتها في تحرير الأرض واسترداد الأسري، ألا يحق للشعب، أو قطاع منه أن يحاول تحقيق ذلك؟ أليس من أجل ذلك نشأ خصوم المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال الخارجي، والعصيان المدني ضد الظلم الداخلي؟ أليس هذا ما كتبت أنت نفسك في quot;سوسيولوجيا الصراع العربي الإسرائيليquot; منذ عام 1973؟ أليس ذلك ما فعلته شعوب أخري من فيتنام إلي الجزائر؟.
5 إذن، لماذا تواصلون الاعتصام والمظاهرات ضد الحكومة اللبنانية، وترهقون وطناً خرج لتوه من حرب ضروس قبل شهور قليلة؟ إن الاعتصام هو وسيلتنا السلمية للحصول علي حقنا العادل في السلطة السياسية. ونحن لا نريد رفع السلاح في وجه الحكومة أو أي فريق لبناني آخر. ولا تقلق أنت والطلبة أو الأخوة في مصر، فحزب الله لم يرفع السلاح خلال ربع قرن إلا في وجه المحتل الإسرائيلي، وسيظل علي هذا النهج مستقبلاً. إن قواعدنا وكوادرنا مثقفة، ومنضبطة، ومؤمنة برسالتها، وتشارك في صنع القرار ديمقراطياً. ولذلك نحن واثقون من الالتزام بالنهج السلمي في معاركنا الداخلية. فإذا حدث عنف فلن يكون البادئ به من حزب الله. وحتي إذا حدث ضدنا فلن نرد... ولنا في ذلك سابقة، وهي المظاهرة الاحتجاجية لحزب الله ضد اتفاقية أوسلو، عام 1993. فقد سقط منا ستة قتلي وأكثر من خمسين جريحاً برصاص قوات الأمن اللبنانية، ومع ذلك لم نرد بالرصاص، رغم قدرتنا علي ذلك. وهكذا مضي الحديث وتشعب، مما لا يتسع معه المقام لتسجيل كل ما قيل. ولكن السيد حسن نصر الله بدا واثقاً ومالكاً لناصية الأمور، قولاً، وفعلاً.
ولا يعني ذلك أن الرجل وحزبه يستطيعان ضبط كل الأفعال وردود الأفعال علي الساحة اللبنانية، خاصة إذا كان فيها لاعبون آخرون مثل أمريكا وفرنسا وسوريا وإيران وإسرائيل. وهذا ما أثرته معه، وكان الصحفي الشهير quot;توماس فريدمانquot; قد اتصل بي هاتفياً من نيويورك، ليسأل ضمن أشياء أخري، عما إذا كان حسن نصر الله هو مجرد مخلب تستخدمه كل من سوريا وإيران من أجل تنفيذ مخططاتهما الإقليمية. ولم يتردد الرجل في الإجابة علي سؤال فريدمان. نعم إيران تساعد حزب الله، منذ اليوم الأول لنشأته، عام 1982، بالمال والسلاح والتدريب. وذلك من موقع الأخوة الدينية والتضامن الطائفي. وتأتي المساعدات عن طريق سوريا. والجميع يعرف ذلك. وحزب الله ممتن لهذه المساعدة وسيقبل مثلها أو بديلا لها من أي طرف عربي أو إسلامي مثل مصر أو السعودية. إن أجندة حزب الله واضحة ومحددة تحرير الجنوب اللبناني ورفع الظلم عن أبناء الطائفة الشيعية في لبنان. وكل مساعدة مادية أو معنوية من أجل تحقيق هذين الهدفين المحددين، فإن الحزب يقبلها شاكراً.طلب مني توماس فريدمان أن أسأل السيد حسن نصر الله ما إذا كان مستعداً لتنظيم مسيرة مليونية، مثل تلك التي نظمها من قبل، من أجل حقن الدماء بين السنة والشيعة في العراق.
وكان فريدمان في حديثه التليفوني الطويل من نيويورك يبدو مهموماً بتفاقم القتال وسفك الدماء بين أبناء الطائفتين في العراق. وكان الصحفي اللامع قد شهد في مقتبل عمله الصحفي مثل هذا القتال الطائفي القبيح في بيروت (1975-1990). وبدلا من أن أوجه أنا السؤال لحسن نصر الله، طلبت من توماس فريدمان أن يوجه السؤال بنفسه علي صفحات quot;النيويورك تايمزquot;. وهو ما فعله تلميذنا السابق، في مقال له بعنوان quot;لماذا لا ينتفض المسلمون ضد المحرقة العراقيةquot; quot;Why don't Muslims decry the Iraqi Carnage?quot; ، وقد خص فريدمان، حسن نصر الله بالاسم في المقال. ولم يجب نصر الله مباشرة بعد. ولكن صاحب السؤال ومن يتوجه لهم بالسؤال، وهدف السؤال وتوقيته، هي أمور يجمعها مشهد يصدق عليه أنه من quot;علامات الساعةquot;، فالسائل يهودي أمريكي، والمسئول هو قيادة إسلامية ذات شعبية مرموقة في لبنان، والاستغاثة هي من أجل طائفتين مسلمتين تقتتلان في العراق، والشاهد علي كل ذلك مصري يكتب من القاهرة.
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
التعليقات