الثلاثاء 6 فبراير 2007

د. محمد عابد الجابري

عرضنا في المقال السابق لما نعتقده موضوعاً صالحاً لحوار الديانات في الأفق الذي أنهى به البابا خطابه الشهير، أعني بذلك الحوار من أجل إعطاء مضمون معاصر للضرورات الخمس التي تتفق عليها الديانات السماوية الثلاث. وقد بدأنا بتحليل الضرورة الأولى وهي quot;حفظ النفسquot;، واليوم نتحدث عن الضرورات الأربع الباقية وفي مقدمتها quot;حفظ العقلquot;، فنقول إن هذا النوع من الفهم لـquot;حفظ النفسquot; (انظر المقال السابق) يتطلب عقلاً سليماً، عقلاً يعقل، يكبح ويحبس الميول العدوانية في الناس مهما كان نوعها. ومن هنا ضرورة بناء فهم جديد لـquot;حفظ العقلquot;.
العقل في أصل معناه هو القدرة التي تمكن الإنسان من التمييز في الأشياء، بين الخير والشر، بين الحسن والقبح، بين الصواب والخطأ. وكلمة quot;عقلquot; في اللغة العربية، كما في لغات أخرى، تفيد الكبح والتقييد، وعندما يوصف بها الإنسان فالمعنى ينصرف إلى أنه قوة كابحة للميول العدوانية، مقيدة للشهوات الخ... بعبارة قصيرة، العقل معيار يمكِّن الإنسان من التمييز بين الصواب والخطأ على صعيد المعرفة، وبين الخير والشر على صعيد الأخلاق، وبين الحسن والقبح على صعيد الفن والجمال.
ومن خلال التمييز بين الصدق والكذب أو الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الحسن والقبح، تبرز وظيفة أخرى للعقل تأتي في الحقيقة كنتيجة، هي وظيفة التمييز بين النافع وغير النافع، بين المفيد وغير المفيد، بين ما يؤدي إلى النجاح وبين ما ينتهي إلى غير نجاح. وهكذا فالنافع في الأصل هو المبني على الصواب والصحة والخير والحسن. وغير النافع هو المبني على عكس هذه. ذلك هو العقل المعياري؛ العقل كما يذكره الدين ويمجده وتتحدث عنه الأخلاق وتشيد به، وهو الذي كانت له القيمة الأسمى في العصور الماضية.
أما اليوم فنحن نشاهد العقل يتحول من معيار منطقي وأخلاقي إلى مجرد أداة حتى أصبح يوصف بالعقل الأداتي: مهمته تحقيق النجاح بدون اعتبار لأي شيء آخر، فأصبح النافع هو الحق وليس العكس. وبعبارة أخرى: العقل الأداتي هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح، شعاره: كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا quot;العقل الأداتيquot; مع شعار quot;الغاية تبرر الوسيلةquot;.
حِِفظ العقل عملية يجب أن ترمي إلى إعادة الاعتبار للعقل المعياري الذي شعاره: الحق هو النافع وليس العكس.
الإنسان حيوان عاقل، بالعقل ينفصل عن الحيوان، ولكن في أي مجال؟ هل في مجال العمليات الحسابية الراقية وحدها التي يعجز الحيوان عن القيام بها، وقد أصبح الحاسوب يقوم بها؟ هل في المهارات اليدوية التي تبتدئ من الأكل باليد والملعقة بدل تناول الطعام بالفم كما يفعل الحيوان؟ الروبوت يفعل ذلك وأكثر!
أعتقد أن أول واقعة سلوكية يتحقق بها انفصال الإنسان عن الحيوان هي الواقعة الطبيعية الأولى المعبر عنها بـquot;حفظ النسلquot;. الإنسان وحده يميز بين أولاده وإخوته وآبائه وبين غيرهم. الإنسان وحده يقال عنه إنه ابن فلان. إذن يمكن القول إن الإنسان حيوان له نسب. أجل، على الإنسان وحده تصدق المفاهيم التالية: quot;النسبquot; quot;الأرحامquot; quot;الوالدينquot; quot;الحفدةquot; الخ... والإنسان وحده يبني لنفسه quot;مدينةquot;؛ فهو حيوان مدني، اجتماعي، سياسي. كل ذلك يدخل في مجال الضرورة الثالثة ضرورة quot;حفظ النسلquot;. ولكي ندرك أهمية هذه الضرورة في عالمنا المعاصر قد يكفي أن نتصور ما أصبح بإمكان التقدم العلمي القيام به في مجال البيولوجيا والطب. من أطفال الأنابيب إلى التدخل في الهندسة الوراثية إلى ما يعرف اليوم بالاستنساخ. ومنذ سنين ارتفعت أصوات بضرورة وضع أخلاقيات للبيولوجيا والطب، وأعتقد أن ضرورة quot;حفظ النسلquot; تتطلب فعلاً وضع أخلاقيات في هذا المجال، مجال حفظ النسل.
حفظ المال، والمقصود: الخيرات المادية بمختلف أنواعها والتي هي ضرورية لحياة الإنسان. وحفظها يعني حمايتها من الضياع والتبذير والاحتكار وسوء الاستعمال... الخ. لقد سنت الديانات السماوية قوانين لذلك بعضها على سبيل الأمر الملزم، وبعضها على سبيل الحث والندب والترغيب. ومعلوم أن الديانات السماوية تقرر أن المال مال الله، باعتبار أنه وحده خالق كل شيء ومالك كل شيء. وغني عن البيان القول إن الحث على التوزيع العادل للثروة أمر تشترك فيه الديانات السماوية الثلاث، وقد شرَّعت لتطبيقه بأساليب متنوعة ومرنة بحيث يمكن تطبيقها في كل عصر حسب معطياته الخاصة.
وما يتحدى عصرنا اليوم، على صعيد المال والاقتصاد، هو هذه الظاهرة التي يكثر عنها الكلام الآن، ظاهرة العولمة. العولمة ظاهرة حضارية جديدة، وهي كجميع الظواهر الحضارية لها إيجابيات ولها سلبيات. وأخطر سلبياتها في نظرنا هو ذلك المبدأ الاقتصادي الذي تقوم عليه والذي يتلخص في الشعار: quot;أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من العمالquot;. ومن هنا جاءت ظاهرتان خطيرتان: تسريح العمال وانتشار البطالة من جهة، وتشغيل الأطفال والنساء في الدول quot;الناميةquot; بأقل أجر من جهة أخرى.
يمكن القول بصفة عامة إن اقتصاد العولمة يتجاهل الأخلاق إن لم يكن يتنكر لها. لقد ظهر ذلك واضحاً في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد بسنغافورة في ديسمبر 1996، حيث رفضت معظم الوفود مناقشة قضية تشغيل 250 مليون طفل في العالم، أغلبهم بين السادسة والرابعة عشرة من أعمارهم. وقد انتهت المناقشات في هذا الموضوع إلى المناداة بضرورة quot;الفصل بين التجارة والسوق، وبين معايير العمل والقيم الثقافية والاجتماعيةquot;.
نحن إذن أمام تنكر صريح للجانب الأخلاقي وللتعاليم الدينية، في ميدان العولمة الاقتصادية. يجب إذن quot;حفظ المالquot; والاقتصاد من هذا الاتجاه الخطير الذي يكرس مبدأ quot;المال من أجل المالquot;. ومن هنا ضرورة التفكير في صياغة أخلاق للعولمة يطلب لها الإلزام من ثقافة السلام.
حفظ الدين: وهو من منظور ثقافة السلام يقتضي أولاً وقبل كل شيء، حفظ المنطلق الذي انطلقنا منه: أعني كون الديانات السماوية إنما تقصد إلى مصلحة الناس. ومن هنا يكون حفظ الدين معناه حفظ الضرورات الأربع السابقة: حفظ النفس والعقل والنسل والمال. وهكذا فإذا كنا قد وضعنا حفظ الدين في المرتبة الخامسة فمن أجل أن نجعل من الضرورات الأربع الأولى موضوعاً له، وهل يهدف حفظ الدين إلى شيء آخر غير حفظ النفس والعقل والمال والنسل وما تفرع عن ذلك؟
ولكي يقوم الدين بوظيفته هذه يجب حفظه من داء الغلو والتطرف: التطرف في الدين يلغي وظيفة الدين التي هي حفظ المصالح ويجر إلى توظيفه في غير ما وضع له، بل إلى استعماله ضد النفس والعقل والنسل والمال.
تلك في نظرنا هي القيم الأساسية المشتركة بين الديانات السماوية الثلاث، والتي يمكن انطلاقاً منها تشييد ثقافة للسلام، تضمن السلام للإنسان مع نفسه ومع نسله وجيرانه، وتضمن للشعوب والأمم السلام والعيش المشترك في إطار من التعاون والتضامن.
وأخيراً، دعوني أؤكد: ثقافة السلام هي، أولاً وقبل كل شيء، ثقافة للسلام مع الله، وبالتالي فهي ثقافة للسلام مع خلقه، أفراداً وجماعات. ثقافة ضد التطرف، سواء بدافع القوة الغاشمة، قوة السلاح وأساليب الهيمنة، أو باسم الدين، أعني ادعاء احتكار حقيقته.
وإذا كان لكل مقام مقال، كما يقال، فإن مقامنا هنا يستحثني على استحضار اسم مدينتين تُلَقَّبان في اللغة العربية بلقب quot;السلامquot;.
أولاهما quot;مدينة السلامquot;، القدس مهد الديانات السماوية التوحيدية، والتي يدعونا تاريخها ومستقبلها للعمل معاً من أجل أن تصبح فعلاً مدينة للسلام: لا تزهق فيها نفس، ولا تنتزع فيها أرض، ولا تشرَّد فيها عائلة، ولا يهجَّر عنها ساكن. إن ثقافة السلام في الديانات التوحيدية يجب أن تنطلق من مدينة السلام: من توحيدها والاشتراك في إدارة شؤونها واحترام حق الجميع فيها. ثانية تينك المدينتين العربيتين هي quot;دار السلامquot;، أي بغداد التي هي في واقعها اليوم أبعد ما تكون عن السلام وثقافته. فلنَدْعُ جميعاً من أجل حفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ الدين في كل من quot;دار السلامquot; وquot;مدينة السلامquot;.