داوود الشريان
البيان الذي اصدرته وزارة الداخلية السعودية يوم السبت الماضي حول القبض على عشرة اشخاص بتهمة جمع تبرعات وتهريب اموال لجهات خارجية لدعم نشاطات ارهابية لم يكن الخطوة الاولى لمعالجة هذا الملف الصعب، فقد سبق للسلطات السعودية ان قامت باجراءات لتنظيم جمع التبرعات شملت بنوكاً وجمعيات خيرية، وانشأت هيئة مركزية لهذا الغرض، وليس سرا ان جميع حسابات الجمعيات الخيرية في البنوك يخضع لرقابة صارمة، فسهولة الايداع في هذه الحسابات تقابله اجراءات رقابية مشددة في عمليات الصرف حازت على اعجاب المنظمات الدولية المعنية بهذا الملف، فضلاً عن ان السعودية ممثلة بوزارة الداخلية اوقفت تقريباً جمع التبرعات النقدية، ورفعت الصناديق التي كانت تنتشر في المحال التجارية والاسواق، وخصصت مواسم لهذه التبرعات تتم باشراف مباشر من قبل الاجهزة الرسمية. لكن رغم كل هذه الاجراءات لا تزال المشكلة موجودة، ناهيك عن ان اساليب جمع التبرعات اختلفت وتنوعت واتخذت اشكالاً ملتوية وخفية، كما اشار مصدر سعودي في تقرير نشرته laquo;الحياةraquo; يوم الاثنين الماضي. والسؤال هو ما هي الاسباب التي حالت دون السيطرة الكاملة على هذا الملف على رغم كل ما تم حتى الآن؟ ولماذا يلجأ الناس الى تقديم تبرعات نقدية للافراد على رغم كل الاجراءات والتحذيرات؟
من نافلة القول الاشارة الى ان قضية جمع التبرعات الخيرية في المجتمع السعودي، والمجتمع العربي عموماً، تأخذ بعداً دينياً وتفرض على المتعاملين معها حساسية خاصة، فالمسؤول لا يستطيع ان يتخذ قراراً حاسماً في هذا الامر فيبدو كمن يعترض على قضية حسمها الاسلام وحض عليها. فالتدخل في خيارات المتبرعين ليس بالأمر السهل، خصوصاً ان تنظيم هذه العملية أخذ بعداً سياسياً بعد احداث الحادي عشر من ايلول laquo;سبتمبرraquo;، وبات الحديث عن جمع التبرعات وتنظيمها مثل النقاش حول المناهج التعليمية والخطاب الاسلامي، فضلاً عن ان وقف وتجميد نشاط عدد من المؤسسات الخيرية ساهما في شكل غير مباشر في إحداث أزمة ثقة لدى الناس في المؤسسات المعنية بجمع التبرعات وفي مجتمع لا يزال حديث العهد بمفهوم المؤسسة ودورها، الامر الذي دفع المتبرعين الى اللجوء الى الافراد، والاهم ان أزمة الثقة في المؤسسات لم يأخذها الناس من زاوية الارهاب وتمويله فحسب، بل ان هذه الشكوك التي حامت حول هذه المؤسسات اصابت مبدأ الأمانة لديها في مقتل، وخلقت حالة من عدم الثقة بالقائمين عليها لجهة فسادها وتبديد أموالها في اغراض لا علاقة لها بنية المتبرع وهدفه. ولهذا فإن ذهاب بعض الناس الى الافراد لا يعني بالضرورة انهم موافقون على الاهداف الخفية ودعم الجماعات الارهابية، بقدر ما هو ناتج عن عدم ثقتهم بالمؤسسات المعنية بهذا الغرض.
لا شك ان بعض المؤسسات الخيرية يعاني من ازمة ثقة من جانب المتبرعين، وهذه الازمة لم تأت من تجميد واغلاق بعض المؤسسات فحسب، بل لأن هذه المؤسسات لا تتعامل بشفافية مع المتبرعين، فهي لا تنشر قوائمها المالية كما تفعل البنوك والشركات المساهمة، ولهذا فإن تطوير عمل هذه المؤسسات وتحسين صورتها خطوة مهمة في محاربة تمويل الارهاب، وتحسين الصورة جزء من مسؤولية خطباء المساجد والدعاة الذين تمتد مسؤوليتهم الى الاتفاق مع سياسة الدولة في موقفها من الجماعات والاحزاب والاشكالات السياسية في المنطقة، ومن دون حسم هذه القضية سيبقى هناك من يجمع التبرعات تحت دعوى الجهاد ومساعدة المجاهدين، ولعل بعض الدعاة والائمة يستعيد موقف المجتمع السعودي من التبرع للمجاهدين في افغانستان، وكيف جمعت الملايين في ظل غياب المؤسسات الرسمية، والنتيجة ان هذه الاموال صبت في جيوب تجار الحرب وساهمت في زيادة الاقتتال والعنف في صفوف الشعب الافغاني.
الاكيد ان لهذا الملف وجهاً دينياً شديد الحساسية، لكنه سياسي بامتياز، ولن تستطيع الاجراءات المالية والرقابية تحقيق خطوات مهمة في ظل هذا الخلاف حول قتل المدنيين والمقاومة والارهاب، فالقضية اولاً واخيراً لها مرجعية فكرية. وطالما ان هذه المرجعية منقسمة فلن يجدي الكلام والتوعية والاجراءات الرقابية، فالتبرعات الخيرية تعبير عن اليقين لدى الفرد، وهذا اليقين مسؤولية المفتي والواعظ والداعية، فقيادة الرأي الديني هنا مسألة جوهرية، ومن يتأمل الخطاب الاسلامي في معظم البلاد العربية يجد ان هذا الخلاف الجوهري لم يحسم بعد، فلا يزال بيننا من يبرر التبرع للمتمردين والارهابيين والخارجين على القانون بحجج دينية. والخلاصة ان ما نواجهه في قضية تمويل الارهاب لا يختلف عما نعانيه في مسألة تسويغ الارهاب ذاته، فتمويل الارهاب هو محصلة لأخطاء وتجاوزات فكرية وعقائدية وليس نتيجة تقصير في المراقبة والملاحقة.
التعليقات