محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
تتفق مع المملكة أو تختلف معها، أو بلغة أدق: مع سياساتها، إلا أنك لا تستطيع أن تتجاوز دورها الفاعل والمؤثر في السيطرة على الأحداث، وقدرتها على توظيف ثقلها ومكانتها السياسية بتمكن في (حلحلة) الأزمات، والأخذ بها إلى بر الأمان. الملك عبدالله وهو يقود الدبلوماسية السعودية (بمهارة) في التعامل مع ملفات المنطقة الملتهبة، وينتقل من نجاح هنا إلى نجاح هناك، يُثبت ما كنا نقوله ونردده ومؤداه أن الاستقرار السياسي منذ عصر الأب المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله وحتى عهد الملك عبدالله، هو السر وراء هذه المكانة الكبيرة التي تحظى بها الدبلوماسية السعودية؛ وأنها دولة تحكمها استراتيجيات، ويقودها رجال يدركون كيف يُمكن تفريغ الأزمات من مخاطرها، وإدارتها بالشكل الذي يمنع هذه الاحتقانات السياسية من التفاقم والتأثير على الأمن والسلام في المنطقة التي نعيش فيها.
اتفاق مكة التاريخي بين الفلسطينيين الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين يؤكد بكل المعايير ما أقول، وهو من جهة أخرى يضع الفلسطينيين، وبالذات الفصيلين الأكبر والأقوى فتح وحماس، أمام مسؤوليتيهما التاريخية، بالشكل الذي يمنع الأوضاع داخل الأرض الفلسطينية من أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه. فالفلسطينيون، بعد الصراع المسلح بين فتح وحماس، كادوا أن يُدخلوا قضيتهم في نفق مظلم لا يعلم إلا الله وحده نهاياته. غير أن اتفاق مكة واللغة المتفائلة التي طغت على كلمات الزعماء الفلسطينيين بعد أن أنجزوا الاتفاق تبشر بأن الفرقاء المتصارعين جادّون - على ما يبدو - في اتفاقهم، وأن الاتفاق على (حكومة الوحدة) الفلسطينية التي أعلنت من قصر الصفا بمكة المكرمة، و(البنود الأربعة) التي اتفق عليها المجتمعون كآليات، والتي أعلن عنها نبيل عمرو، ستكون بمثابة صمام الأمان الذي يمنع فوهة البندقية من أن يكون لها الدور الفاعل في حالة الصراع السياسي مثلما جرى مؤخراً.
الرئيس الفلسطيني وصل إلى كرسيه من خلال الانتخابات، وحماس استأثرت بالأغلبية البرلمانية، والتي خولتها تشكيل الحكومة الفلسطينية من خلال الانتخابات أيضاً، غير أن التحاكم إلى صناديق الانتخابات، والتسليم بنتائجها، كاد يختفي تماماً عندما تحول الصراع على القوة والنفوذ السياسي إلى صراع يتمترس الفرقاء السياسيون فيه وراء السلاح، ويسيطر على مناخاته وأجوائه صوت الرصاص لا صوت العقل، ولغة الكلاشينكوف لا لغة الحوار السياسي.
الآن يجب أن يدرك الفلسطينيون بعد هذه (الوحدة) التاريخية بين فصائلهم، وبالذات قيادات حماس التي تضطلع بقيادة الحكومة المقترحة، ويكوّن أعضاؤها أغلبية أعضاء حكومة الوحدة الوطنية، أن متطلبات (الدولة) وإدارتها غير متطلبات (المقاومة) أو (الثورة) كما قلت في مقال سابق. وأن التحدي الحقيقي الذي سيواجههم في المرحلة المقبلة أن يُثبتوا (للجميع) أنهم أهل لإدارة الدولة، وهذه الأهلية تبدأ وتنطلق وتتمحور حول احترام العهود والمواثيق التي تبنتها السلطة الفلسطينية في مسيرتها نحو (الدولة الفلسطينية) المستقلة وحل القضايا المعلقة وعلى رأسها معضلة اللاجئين وقضية (القدس)، عن طريق التفاوض، وفرض السلام على إسرائيل فرضاً من خلال العمل الدبلوماسي لا العمل الثوري..
إسرائيل لا تريد (السلام)، وتنتهز أية فرصة لخلط الأوراق، والتهرب من طاولة المفاوضات، وإعادة القضية إلى الوراء كلما رأتها تتقدم ولو قيد شبر إلى الأمام. هذه حقيقة أثبتتها تجارب الفلسطينيين مع إسرائيل منذ أوسلو وحتى الآن، ولا يرفضها إلا مكابر. ولعل ما أشار إليه الرئيس الفلسطيني في كلمته في قصر الصفا حول ضرورة أن تحترم الحكومة المقبلة الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير هو بمثابة حجر (الزاوية) لهذا الاتفاق. مهمة الحكومة المقترحة في رأيي، إضافة إلى تفريغ الاحتقان الفلسطيني في الداخل، وحل مشكلة (الرواتب) المتأخرة، أن تعمل بإصرار على إقناع العالم أن (السلام) هو الخيار الاستراتيجي الذي تسعى إليه السلطة، وأن لغة (التفجير) والتدمير والعمليات الانتحارية، ستتغير لتصبح لغة التفاوض هي لغة (البحث) الذي لا يكل ولا يمل عن السلام.
ورغم أنني من المتفائلين بهذا الاتفاق، إلا أن الخوف كل الخوف أن تتعقد القضية من جديد، وتعود المشكلة مرة أخرى إلى نقطة الصفر، خاصة وأن هناك بعضاً من التفاصيل التي تم إرجاؤها للاتفاق عليها لاحقا كما صرح دحلان بعيد الاتفاق؛ ولأن (الشيطان يكمن في التفاصيل) كما يقولون، فإن أخشى ما نخشاه أن تتحول هذه التفاصيل المؤجلة إلى معضلات قد تفجر الاتفاق.
الفلسطينيون بعد هذا الاتفاق التاريخي أمامهم فرصة تاريخية للم الشمل والتوحد والالتفات إلى قضيتهم الأولى وهي الدولة الفلسطينية المستقلة. هذه الدولة - في رأيي - لا محل لتحقيقها إلا بالتفاوض والحوار والعمل الدبلوماسي الصبور الذي لا يعرف التثاؤب إليه سبيلاً.
التعليقات