الجمعة 23 فبراير 2007

عرض: عبد الجبار عبد الله

وفقاً لهذا الكتاب، فإن تمثال الحرية الشهير الذي يرمز إلى رسوخ القيم الديمقراطية الأميركية عبر القرون، لم يعد سوى رمز سياسي ثقافي، مغترب عن ذاته وعن التربة التي ينهض عليها، في ظل السياسات والتوجهات التي تتبعها إدارة بوش الحالية، وهي سياسات وتوجهات منافية لما يرمز إليه التمثال، جملة وتفصيلاً كما سنرى خلال استعراضنا لمادة هذا الكتاب. وأهم ما يستشف منه ابتداءً من عنوانه: quot;يمكن أن يحدث هناquot;، هو أن التجارب الديمقراطية الراسخة المؤسسة، لا توفر تربة صالحة للانقلابات السياسية، مثلما هو حال النظم السائدة في غالبية البلدان النامية، بحكم عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تتسم به تلك الدول. غير أن الجديد الذي أتت به إدارة الرئيس بوش، وأيديولوجية quot;المحافظين الجددquot; التي تستند عليها، هو إحداث انقلاب سياسي بوسائل وأدوات العمل المدني، بل بالديمقراطية نفسها، خلافاً لطبيعة التحولات السياسية التي تشهدها الدول النامية، عبر الآلية والانقلابات العسكرية عادة. والمقصود بهذا الانقلاب، تحول أميركا من دولة ديمقراطية إلى دولة شمولية قابضة، تحت وطأة سياسات بوش ومحافظيه الجدد.

ووفقاً لـquot;جو كوناسونquot; مؤلف هذا الكتاب، فإن من يتولى قيادة دفة الحكم في أميركا اليوم، رئيس شعبوي يميني الاتجاه، تحيط به حلقة محكمة من المستشارين الأيديولوجيين، ويدعمه تحالف قوي مؤلف من أصحاب الاستثمارات ورؤوس الأموال، والأصوليين المتزمتين. وقال إن هذا التحالف كثيراً ما يجنح لاستخدام مهددات الأمن القومي، كذريعة لتركيز مزيد من السلطات بيد الرئيس وجهازه التنفيذي عموماً، إلى جانب مصادرته للحريات المدنية يوماً بعد يوم، باسم الأمن القومي. وبعبارة واحدة، يصف المؤلف إدارة بوش الحالية، بأنها عبارة عن حلقة ضيقة من المفسدين وذوي المصالح الاستثمارية والسياسية الخاصة، ممن يوجهون سياسات أميركا كلها، وجهة شمولية، تتناقض وتراث القيم الديمقراطية الراسخة.

وللتدليل على صحة رأيه هذا، يورد المعلق الصحفي ومؤلف هذا الكتاب، قائمة طويلة من الانحرافات والممارسات الخاطئة التي نسبها للإدارة، ويرى فيها تهديداً مباشراً للقيم الديمقراطية السائدة في أميركا. وتشمل هذه القائمة: إنشاء المحاكم العسكرية المختصة بالنظر في التهم الموجهة إلى المدنيين وأسرى الحرب على الإرهاب الدولي، وانتهاج التعذيب النفسي والجسدي كوسيلة لانتزاع الأقوال والاعترافات من المتهمين والمشتبه بهم، والاعتقال التحفظي وسجن المتهمين لمدد وفترات طويلة دون توجيه اتهامات محددة لهم وبالتالي دون تقديمهم للمحاكمة، ثم التنصت على المكالمات الهاتفية الواردة والصادرة للمواطنين الأميركيين دون الحصول على تصريح قانوني أو قضائي بذلك، وكذلك الإصدار المتكرر لإنذارات الخطر الأمني بدوافع سياسية بحتة هدفها استقطاب التأييد الشعبي لسياسات القمع ومصادرة الحريات المدنية التي تتبعها الإدارة. كما تشمل القائمة أيضاً، شن الإدارة لحرب قامت على ذرائع ومسوغات ملفقة، وتوسيع نفوذ رجال الدين المتطرفين وبيوت الاستثمار والمصالح الاقتصادية على عملية صنع السياسات والقرارات في البيت الأبيض، وهي الظاهرة التي أحدثت تداخلاً غير مسبوق في التاريخ السياسي الأميركي العلماني في اتجاهه العام، بين جهاز الدولة والكنيسة من جهة وبين الجهاز السياسي الحاكم وبيوت الاستثمار والشركات الخاصة من جهة أخرى. وحسب المؤلف فإن هذا التحالف الأخير، قد عبر عن نفسه وأهدافه بوضوح، في السياسات الضريبية التي تتبعها الإدارة -وهي سياسات تعبر عن مصالح الأغنياء وتدعم مواقعهم الاقتصادية على حساب المواطنين الفقراء المستضعفين- أي الأهداف ذاتها المعبر عنها من خلال الحرب التي شنتها الإدارة على العراق.

أما في الجانب الإعلامي، فقد شملت انحرافات الإدارة، ميلها المستمر للسرية والتكتم، مع تسريب ما تريده من معلومات، عبر الوسائل الصحفية اليمينية الموالية لها، مقابل شن الحملات المعادية ضد الصحافة الحرة التي تكشف هذه الممارسات وتنتقد الإدارة عليها. وإلى كل هذه المآخذ، يضيف quot;جو كوناسونquot; تمرد الإدارة وامتناعها عن الالتزام بأية قيود دستورية، تحد من سلطات وصلاحيات السلطة التنفيذية، على نحو ما هو معروف وراسخ في تاريخ العلاقة بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية في أميركا. وغني عن القول إن الكتاب برمته يعد بمثابة واحد من أقوى الانتقادات التي وجهت لإدارة بوش ولحزبه quot;الجمهوريquot; ولحلقة quot;المحافظين الجددquot; وأيديولوجيتهم التي استندت عليها، ولا تزال، كافة سياسات بوش واستراتيجيته.

وإذا كان هذا هو حال الدولة الأم التي تزعم لنفسها رسوخ تجربتها الديمقراطية، بل وتسعى إلى quot;تصديرquot; هذه التجربة وتعميمها على ما تسميها بـquot;الدول المارقةquot; دون أن تتشرب هي نفسها تلك القيم وتعبر عنها في الداخل، فكيف يستقيم لها أن تفعل ذلك؟ وإن صحت قراءة ما تحت وبين السطور، مما قاله المؤلف، فإن أكبر خطر أضحى يهدد أميركا نفسها، هو تحولها التدريجي على يد إدارة بوش الحالية، إلى دولة شمولية مارقة. ومن المنطق والعقل القول أيضاً، إنه ليس في وسع المارق أن يعيد أقرانه الآخرين إلى دائرة القانون والنظام والأمن! وهذا ما يفسر الحديث واسع النطاق اليوم، عن تهشم صورة الدولة العظمى، وعن فقدان أميركا لمصداقيتها، وعن انهزام سطوتها الأخلاقية، بسبب التناقض الحاد بين ما تقول وما تفعل داخل وخارج حدودها. فما القيادة إلا بتقديم المثل والقدوة كما قال الكثير من المفكرين والمؤرخين والساسة الأميركيين. ولكن هل تستمع إدارة بوش.. هل يرعوي غلاتها ومتطرفوها؟!

عبد الجبار عبد الله

الكتاب: يمكن أن يحدث هنا: الخطر الشمولي في عصر بوش

المؤلف: جو كوناسون

الناشر: دار quot;سينت مارتنquot; للنشر والطباعة

تاريخ النشر: 2007