إياد أبو شقرا

قلّما تفاءلت في حياتي بقلب صفحة سياسية كما تفاءلت يوم أول مايو (أيار) 1997 عندما قاد توني بلير حزب العمال إلى فوز ساحق في الانتخابات العامة ببريطانيا منهياً عقدين تقريباً من حكم اليمين المحافظ.

كان هذا الفوز بالنسبة لي حدثاً ذا أهمية استثنائية. إذ كنت قد انتسبت قبل سنتين من ذلك التاريخ إلى الحزب. وتلك كانت المرة الأولى في حياتي التي أقرر فيها الانضمام إلى حزب سياسي.

فقبل مجيئي إلى بريطانيا كنت قد اقتنعت باستحالة ممارسة العمل الحزبي الصحيح في بيئة بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية، كحال لبنان السبعينات، وهذا مع أن لبنان يظل أفضل من معظم أشقائه العرب في هذه المضمار. وللأسف، أثبتت الأيام صحة رأيي السلبي في البيئة السياسية اللبنانية، ولا سيما laquo;عشائريتهاraquo; الدينية والمذهبية المدمرة، وlaquo;جراثيمraquo; الوصولية والدوغماتية التي تغلغلت حتى إلى داخل احزابها العقائدية العلمانية ... فجعلتها لقمة سائغة لأجهزة الاستخبارات الشقيقة والصديقة.

أمر آخر حفّزني للانتماء إلى حزب العمال في تلك الفترة هو نشوء طرح استعلائي عند حزب المحافظين الحاكم يرى بأنه laquo;حزب السلطةraquo; الشرعي الوحيد، ولا بأس باحتكاره الحكم إلى الأبد، لأن الآخرين laquo;سيدمرون البلادraquo; إذا أتيح لهم تولي الدفة!

وهنا أذكر أنني خلال مناسبة إعلامية بلندن دخلت في دردشة قصيرة مع توني بن، زعيم اليسار العمالي التاريخي، وقلت له laquo;أنأ لم انضم للعمال إعجاباً بكل ما يمثلونه ... بل لكرهي غطرسة المحافظين وخشيتي من تحوّل بريطانيا إلى ... دولة الحزب الواحد إذا فازوا مجدداًraquo;.

... وتعلم العمال بعد أربع هزائم انتخابية موجعة من أخطاء الماضي، فابتعدوا عن الغلو الآيديولوجي وأدركوا ضرورة احترام الناس التي يُفترض ـ في الأنظمة الديمقراطية ـ رسم السياسات من أجلها ... لا أن تغدو ببغاوات تبجل كل ما يقوله الحاكم. وساعد في جاذبيتهم أن زعيمهم الشاب الوسيم توني بلير، ترتاح إليه عدسات التلفزيون وتطرب لخطاباته المثالية التجمعات الجماهيرية.

وليل أول مايو 1997 أخذت النتائج تعلن تباعاً، ولم تمض ألا ساعة أو اثنتان حتى تأكد حجم الانتصار الضخم الذي أنهى الحقبة الثاتشرية.

في تلك الليلة تفاءلت مثل ملايين غيري بعصر جديد أساسه الإصغاء للناس العاديين، والاهتمام بمشاكلهم، والعمل على إعادة اللحمة إلى مجتمع نهشته الفردية القاتلة التي بشّرت بها مارغريت ثاتشر صاحبة القول المأثور laquo;ليس هناك شيء اسمه مجتمع، بل هناك أفراد رجال ونساء، وهناك عائلاتraquo;.

ومع أن بلير تعهد للشعب بأنه لن يعيد عقارب الساعة إلى الخلف، بل سيقود حزباً عصرياً في مقاربته قضايا المواطنين، آمن كثيرون مثلي، يومذاك، بأن لا ضرر من الاعتدال والواقعية والنهج العملي في ممارسة الحكم. ولهذا السبب، استطاع بلير قيادة الحزب خلال أربع سنوات لانتصار ثان كبير. ولكن بعد فترة قصيرة أخذ الشك يتسلل إلى النفوس إثر اعتماد حكومة بلير جملة من المواقف والسياسات الداخلية التي شكلت نكوصاً عن كل ما يمت إلى المبادئ الاشتراكية المعتدلة بصلة. كذلك تخلت الحكومة عن شعار laquo;السياسة الخارجية الأخلاقيةraquo; (وبخاصة في فلسطين) الذي سبق لها رفعه، وتراجعت عن جوهر حل شجاع في أيرلندا الشمالية.

ثم تناسى بلير مشروع laquo;الطريق الثالثraquo; (بين الرأسمالية والاشتراكية) الذي روّج له عندما كان الرئيس بيل كلينتون في البيت الأبيض. وبالتالي، بدا أن لا وجود للقناعات والمبادئ في قاموس بلير، بل هو مجرد laquo;محترف سلطةraquo;.

ثم جاء عهد الرئيس جورج بوش laquo;الإبنraquo; ومعه إعلان laquo;الحرب على الإرهابraquo; ليؤكدا أسوأ الظنون بالمستر بلير. ومن ثم أزالت تداعيات حرب العراق آخر laquo;أوراق التوتraquo; عنه. وهو ما حدا بنواب الحزب وقادة الرأي فيه إلى الضغط عليه ليحدد موعد تنحيه، وقد فعل.

قرار المباشرة بسحب القوات البريطانية من العراق يأتي في سياق القرارات الوداعية التي باشر بلير باتخاذها مع تسارع العد التنازلي لحكمه. وقد يكون العراق بالذات العلامة الفارقة التي ستطبع سنوات حكمه العشر. إذ يؤمن عدد من المعلقين أن العراق 2003 بالنسبة لبلير أضحى مرادفاً للسويس 1956 بالنسبة لأنتوني إيدن. غير أن المضمون الأوسع لهذا الرأي هو الفشل الفظيع لعهد بلير في التعامل مع مجمل قضايا الشرق الأوسط والعلاقات مع الإسلام.

فبصفة عامة، لا يغفر المواطن العربي والمسلم لبريطانيا إخطاءها إزاء العالمين العربي والإسلامي. وهو يعتقد أنها لا تستحق laquo;أسباباً تخفيفيةraquo; باعتبارها ملمة بتاريخيهما، ناهيك من أنها صاحبة الإسهام الأكبر في رسم خرائط دولهما. وهذا واقع يختلف عن تقييم العرب والمسلمين للسياسة الأميركية ... وبالذات في عهد الإدارة الحالية.

في موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، مثلاً، تجاوز بلير وزارة الخارجية وخبرتها الطويلة، واختار صديقه اللورد (مايكل) ليفي، الشخصية اليهودية ذات الصلات الوثيقة بإسرائيل، ليصبح مبعوثه الخاص إلى المنطقة. ولم تبادر بريطانيا إلى أي خطوة فعالة لمنع إسرائيل من تدمير السلطة الفلسطينية سواء قبل حصار ياسر عرفات، أو بعد فوز حماس بالانتخابات.

وفي شأن العراق، الذي كان خاضعاً مثل فلسطين للاشراف البريطاني، ألزم بلير بريطانيا ـ كما نعلم ـ ببرنامج عمل laquo;المحافظين الجددraquo; الأميركيين للعراق، من دون أن يتبين له ما إذا كانت لواشنطن استراتيجية واحدة بعيدة المدى أم لا. وكل ما أفرزته المحنة العراقية اليوم هو تنامي دور laquo;الشيعة السياسيةraquo; في المنطقة تحت المظلة الإيرانية التي قد تصبح مظلة نووية خلال فترة قصيرة. وفي شأن laquo;الحرب على الإرهابraquo; أسهم التماهي الكامل بين مواقف بلير وبوش في مفاقمة مشاعر الغربة الثقافية والعداء للغرب التي تتولد عند أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين من شبه القارة الهندية، والذين خرج منهم إرهابيو تفجيرات 7 يوليو/تموز 2005 في لندن.

هذا الفشل الفظيع سيرثه الزعيم المقبل غوردن براون.

رجائي الحار أن ينجح براون في إحداث تغيير ما في الاتجاه الصحيح. لكنني اليوم أكبر بعشر سنوات عما كنت عليه عام 1997، ولذا لن استقبل العهد الجديد بتفاؤل مفرط قد يكون في غير محله.