السبت 3 مارس 2007
د. حسن حنفي
كثر الحديث في الصحف هذه الأيام عن الشريعة والدستور في مصر، وهل تترك المادة الثانية في الدستور quot;الشريعة الإسلامية أحد المصادر الرئيسية للتشريعquot; كما هي دون تعديل كما تريد الدولة، أم تبقى وتعدل في صيغة أكثر تشدداً إلى المصدر الرئيسي للتشريع كما يريد بعض التيارات الدينية، أم تحذف نهائياً كما يريد التيار العلماني والإخوة الأقباط.
وهي قضية مُفتعلة. المقصود بها ملء مادة في الصحافة، وزيادة الفرقة بين الناس، وإشعال حرب أهلية بين التيارات الفكرية والسياسية الأساسية في مصر، بين التيارات الدينية والعلمانيين، كي يضعف جناحا المعارضة الرئيسيان في مصر، وبين المعارضة والدولة لإذكاء الخلاف حول موضوع فقهي نظري صرف لإبعاد النظر عن قضايا أهم، ولكي تخرج فيها أطراف معينة منتصرة على خصومها السياسيين لتظهر أمام الناس على أنها هي التي تمثل الاعتدال والتوسط ضد التطرف والعنف.
ليس المقصود هو الظاهر، الخلاف على مادة في الدستور، بل تكشف المسألة صراعاً مكبوتاً على السلطة بين التيارات الدينية والعلمانيين، وإشعال الحرب بين الإخوة- الأعداء. والمقصود أيضاً كسب أطراف أخرى معركة تعديل الدستور ضد خصومها السياسيين. والكل يتملَّق أذواق الجماهير وقناعتها بالإسلام، عقيدة وشريعة، ويُزايد كل فريق على الآخر، يُزايد التيار الديني على العلمانيين في المحافظة على التراث والدفاع عن الهوية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإيمان المجتمع. ويُزايد العلمانيون على التيار الديني في الحداثة والمدنية والمواطنة. خطاب الفريق الأول موجّه إلى الداخل لكسب الأصوات. وخطاب الفريق الثاني موجّه إلى الخارج لكسب الدعم الخارجي. وأثناء ذلك يزايد كل طرف على خصومه السياسيين تعبيراً عن الإجماع الوطني والرؤية الوسطية التي تلمُّ الشمل وتحمي الوحدة الوطنية.
وهي قضية نظرية خالصة لا ينتج عنها أي أثر عملي. فسواء بقيت هذه المادة في الدستور أم أُلغيت، وسواء ظلت على صياغتها التوافقية الحالية أم عُدلت نحو أحد التيارين المتعارضين فإن حالة الاحتقان باقية. والأمر كله مجرد ذر للرماد في العيون. وثمة من المؤسسات من يخرق بنود الدستور، بقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي الذي يتجدد بمجرد إفراج النيابة عن المعتقلين لمدة أسبوعين، بحد أقصى ستة شهور أي اثنتا عشرة مرة! وبعض رجال المجتمع وهم رجال الأعمال هم بؤرة الفساد. يجمعون بين السلطة والثروة. ويتعاملون مع الخارج قبل الداخل. كل ذلك إشغالاً للناس وللرأي العام بعيداً عن بعض السياسات الخارجية، وترك العراق على مدى أربع سنوات، وفلسطين يُصفى دم شعبها منذ الانتفاضة الأولى على مدى عشر سنوات، واحتلال الصومال، ومخاطر تفتيت السودان، وتهديد سوريا. كما أنه إبعاد لهم عن قضايا القهر والفساد والمواجهة مع القضاء والجامعات والنقابات والاتحادات وأحزاب المعارضة وحركات المجتمع المدني.
إن الشريعة ليست كلاً صامتاً جامداً ثابتاً متحجِّراً صلباً عبر التاريخ بل هي متجددة متغيرة بتغير الظروف والمصالح، وبتبدل الزمان والمكان. فالشريعة تعبير عن واقع كما يتضح ذلك من quot;أسباب النزولquot;. الواقع يسأل والشريعة تُجيب. تقدم إجابات عملية تهدف إلى تحقيق مصالح الناس، الأهلَّة لمعرفة المواقيت، والمحيض أذى يوجب الاعتزال عن النساء. والخمر بها مضارٌّ للصحة والعقل والمال. ولا جواب عن أسئلة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي. وهناك أسئلة انتهى عصرها مثل السؤال عن الأنفال والغنائم. فلا توزع غنائم الحرب، في حالة الانتصار اليوم، سلاحاً وعتاداً على المحاربين بل تصبح ملكاً للدولة. والأسرى، نساءً ورجالاً، تحميهم المواثيق والمعاهدات الدولية. والشريعة متغيرة بتغير الزمان بدليل quot;الناسخ والمنسوخquot;. فالأحكام الشرعية متطورة بتطور الزمان كما هو الحال في تحريم الخمر الذي تدرّج كما هو معروف، من الضرر إلى عدم شربه وقت الصلاة، إلى اجتنابه كلية. وأحياناً يتجاوز الواقع والزمان بعض أحكام الشريعة مثل أحكام الغنائم والإماء والصيد. وقد أوقف عمر بن الخطاب العمل بحد السرقة عام المجاعة كما هو معروف. وأوقف سهم المؤلَّفة قلوبهم. وأفتى الشيخ محمد عبده بجواز أخذ فوائد التوفير نظراً لانخفاض العملة عبر الزمان، وأفتى آخرون بإيقاف تعدد الزوجات كحق مطلق استناداً إلى تعليقه على شرط مستحيل وهو العدل بينهن. ورأى آخرون إبقاءه بعد إخطار الزوجة الأولى. وشكلت لجان لإعادة تقنين الشريعة طبقاً لأحوال العصر، وإعطاء صياغات جديدة لقانون الأحوال الشخصية بدلاً من توقف المطلقات والأرامل واللاتي يهاجر أزواجهن إلى مناطق جذب العمالة دون إخطار زوجاتهن. كل منهن تحمل على ذراعيها وليدها أو تجر في أذيالها أبناءها وبناتها.
ولا الدساتير أيضاً ثابتة، ولا شريعة نابليون التي اعتبرها الطهطاوي متفقة في روحها مع الشريعة الإسلامية أيضاً ثابتة إلى يوم الدين. لذلك يدرس طلاب الحقوق quot;تاريخ القانونquot; لبيان تطوره عبر العصور. وتتغير القوانين الحديثة من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب، ومن ثقافة إلى ثقافة، في القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون المرافعات. والقانون التجاري يعكس موازين القوى الاجتماعية والتركيب الطبقي للمجتمع، والقانون الدولي العام والخاص تسيطر عليه القوى الكبرى في صياغاته وأهدافه، ويعبّر عن موازين القوى الدولية في كل عصر. وطالما أدخلت تعديلات على كل الدساتير كملاحق لها. بل قد تتغير بتغير النظام السياسي من ملكي إلى جمهوري، والنظام الاقتصادي من رأسمالي إلى اشتراكي. والدستور المصري الحديث ليس ثابتاً بل أعيدت صياغته عدة مرات منذ دستور 1923 إلى دستور 1971.
وتختلف مدارس القانون في فهم طبيعة القانون بين أكثرها محافظة وأشدها تحرراً. فالمدرسة المحافظة تعتبر القانون تعبيراً عن الإرادة الإلهية. وهو عام شامل مطلق مثلها لا يتغير بتغير الزمان والمكان. وتراه المدرسة العقلية تعبيراً عن العقل الخالص. والعقل أيضاً ثابت لا يتغير، العقل البديهي البسيط. وتراه المدرسة الطبيعية تعبيراً عن الطبيعة الإنسانية وبنيتها الفطرية. وهي أيضاً ثابتة لا تتغير. فالإنسان إنسان منذ الخلق حتى البعث. ويبدأ التصور الاجتماعي المتغير للقانون ابتداء من المدرسة الاجتماعية والتطورية التي تعتبر القانون تعبيراً عن نظام المجتمع. يتطور بتطور المراحل التاريخية للمجتمعات. وتاريخ التشريع ونظام القرابة شاهد على ذلك. ومنها من يعتبر القانون انعكاساً للصراع الطبقي في المجتمع وتوازن القوى فيه كما هو الحال في مصر. لذلك تتغير التشريعات ونظم التعليم والاقتصاد في كل جيل عدة مرات، بل إن هذا القانون ذاته يخضع لتأويلات وتفسيرات متعددة طبقاً لفهم القانون عند المدعي العام والدفاع والقاضي. وصراع التأويلات هو صراع قوى ينعكس في طريقة فهم النصوص. لذلك نشأ صراع بين حرف القانون وروح القانون، بين نفس المدرستين المحافظة والتحررية.
والشريعة ليست كلاً واحداً ورأياً واحداً واتجاهاً واحداً بل هي متعددة الآراء والاتجاهات بين المذاهب الفقهية الأربعة الشهيرة. ويختار كل شعب المذهب الذي يتفق مع خصوصيته. اختارت مصر الشافعية، الوسطية بين الحنفية والمالكية، وإن كانت جزءاً من المنظومة المالكية للمغرب العربي، وهي في الأحوال الشخصية حنفية. وأصبحت اليوم في السلوك اليومي حنبلية تحت تأثير انتشار التيار السلفي.
ولا يعني تطبيق الشريعة، فقط تطبيق الحدود أي قانون العقوبات. فلا واجبات بلا حقوق. وإذا كان من الواجبات تطبيق الأحكام الشرعية أوامر ونواهيَ فمن الحقوق إعطاء كل فرد حقه في بيت المال، في الغذاء والكساء والإسكان والعلاج والتعليم والعمل والمشاركة في ثروات البلاد قبل تطبيق حد السرقة أو حد الزنا. فلكل حكم سبب وشرط ومانع. فلا يُطبق حد السرقة بدافع الجوع والحرمان وبعموم البلوى إذا كان الكل سارقاً. ولا تتعلق الشريعة فقط بالأحوال الشخصية بل بالأحوال العامة، ليس من الباب الضيق، بل من الباب العريض، من النظام السياسي والاجتماعي. نظامها السياسي شورى ضد الاستبداد بالرأي والقرار. يقوم على البيعة وليس على الانقلاب العسكري. ونظامها الاقتصادي يقوم على ملكية وسائل الإنتاج وعلى التوزيع العادل للدخل القومي طبقاً لطبيعة العمل. ونظامها القانوني يقوم على الحُسبة والرقابة على الأسواق وجهاز الدولة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي الوظيفة الرئيسية للحكومة في الإسلام حتى عند السلفيين. ونظامها القضائي يقوم على استقلال القضاء. مهمتها الذب عن البيضة أي الدفاع وتقوية الثغور والحفاظ على استقلال البلاد الوطني ووحدة الأمة وتنمية مواردها وإعمار الأرض. ووقف الظلم واجب شرعي، من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأولي الأمر، واللجوء إلى قاضي القضاة.
هناك فرق بين الجد والهزل، بين تحقيق المصالح العامة وإثارة المشاكل المفتعلة لملء الفراغ السياسي، والإيهام بمشاركة الجمهور العريض في تعديل الدستور. إن المصدر الأول للتشريع هو المصالح العامة، تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد ممكن من الناس. فالمصلحة أساس التشريع كما قرر ذلك كل الفقهاء وعلى رأسهم الشاطبي والطوفي الحنبلي. وبعض ما يحدث اليوم من تعديلات للدستور إضرار بالمصالح العامة، وهي أساس الشريعة والدستور في آنٍ واحد.
التعليقات