سعد بن طفلة
كم كانت رحلة من الخيال، سهل ممتنع قرار تؤجله مشاغل الحياة، ما بين العمل الذي يأخذ كثيرا من وقتي، وبين اللاعمل الذي يأخذ أحيانا أوقاتنا أكثر، تلك هي الرحلة السنوية التي أقوم بها إلى الغاط مع مجموعة من الأصدقاء. تذهب إلى قلب نجد بحثا عن طمأنينة خاصة لقلبك، في قلب نجد بالمملكة العربية السعودية يحتضنك السكون، ويرحب بك الهدوء، ويحفك كرم السدارى أهل هذا المكان الوديع، تراه وديعا، وهو يعج بالحياة، وبصخب هادئ يتردد صداه في جبال طويق واليمامة، وتمشي بين نخيلها وكأنما تمر عبر قرون من الزمن إلى الوراء، يتردد في جنباتها عبق التاريخ، وتسمع في حفيف النخل سيمفونية لم تتوقف منذ آلاف السنين...
في صحراء النفود، حيث الزمان لا زمان، والمكان امتداد سرمدي من الرمال المتحركة، ثباتا ورسوخا ترسم معالم وجه الصحراء وتضاريسها، التي تبعث رهبة ودعة في النفس في الوقت نفسه...
كان القمر بدرا مكتملا. لم يخترق هدأة الليل سوى هشيم النار التي أشعلناها من الرمث والعرفج، كمادة أسرع اشتعالا من خشب السمُر، الذي يعاند النار ويرفض أن يحترق بسهولة. تابعنا دورة القمر ساعة طلوعه إلى أن اكتمل فوق رؤوسنا، ساعات مرت كاللحظات. لوهلة، شعرت بأن القمر جاء لنا وحدنا، عرفت لماذا ردد الشعراء والمحبون كثيرا عبارات وبيوتا من الشعر تروي خصوصية مع القمر.
سرنا في اليوم الثاني عبر أودية وشعاب تحفها النباتات والأزهار الفصلية تتساءل: عمر نباتات النفل والخزامى والحميض والقحويان (الاقحوان) الفصلية أسابيع قليلة، لكنه بعمر الدهر في ظهوره على الأرض، تسير بين ورود الصحراء وروائحها الفواحة تملأ رئتيك، تشعر بالنقاء في الهواء، وبالصمت الذي لا يمزقه سوى أصوات الطيور، وفرار طيور الحجل حين تشعر باقترابنا... لا أحب صعود الجبال، لم أواصل الرحلة صعودا خوفا من آلام laquo;الديسكraquo;، ولكني واصلت السير بدون الأصدقاء، مما أعطاني فرصة أخرى للاختلاء بالنفس في طريق العودة.
في الليلة الثانية، زاد القمر تألقا، وزادنا تألقه ابتهاجا، جاءت الربابة، واستمعنا إلى المنكوس والهجيني، وجرات ـ أي ألحان ـ على أوتار هذه الآلة الموسيقية البسيطة والعميقة معا، كنت أحسب أن صداها كان لمغنين غنوا هنا قبل مئات السنين. في لحظة أثناء الربابة خرجت من الخيمة راكضا، ابتعدت لأستمع إلى صوت الربابة عن بعد، حنين لا يشبهه حنين، ونغم عن البعد يجرك للماضي وللبساطة ولحياة تلاشت... ترى! هل لهذه الألحان بقايا في هذه السماء الرحبة؟ هل يمكن للعلم أن يتطور يوما ويجمع لنا لحونا غناها الأولون قبلنا وبقيت ذبذباتها بين هذه الكثبان ترفض أن تغادرها لأن فيها فناءها؟ من يدري! فقد كانت كل مكتشفات العلم أحلاما تحولت إلى حقائق، وكانت منجزات التكنولوجيا أفكارا ترجمت إلى إبداعات. المجيء إلى هنا يبعث في العقل شحنات من الطاقة ضعُفَ نظيرها في الصخب والمدن.
لحظات من تنقية الروح، وصفاء النفس، وتفتح الذهن، واسترخاء العقل، وهدوء السريرة... في ليل الدهناء، عرفت منبع الخيال الفكري، والثقافة العربية السردية للتاريخ، وعرفت كيف أصبح التاريخ ديوان العرب.
فكرت في القمة العربية، ماذا لو عقدت في هذا المكان الجميل والمفتوح؟ أجزم أن ثمة علاقة بين الفضاء الرحب والعقل المتفتح! لا بل إنني واثق من أن أبو مازن وخالد مشعل سيشكلان الحكومة الفلسطينية هنا في ساعات.
لو جاء الفرقاء اللبنانيون إلى laquo;طعوسraquo; وكثبان النفود وبقوا فيها يومين، لفكروا بطريقة مختلفة...
البشائر تقول باهتمام رسمي سياحي سعودي بمدينة الغاط وما حولها... بشرى خير لمحبي النادر من نوادر الأماكن على هذه الأرض...
التعليقات