سكوت مكلويد - التايم

قصر السراي، مقر الحكومة اللبنانية، هو قصر تاريخي رائع يعود الى القرن التاسع عشر. كانت واجهته الحجرية، وساحته الهندسية، وحجراته المزخرفة قد شيدت أصلاً لتكون ثكنات عسكرية عثمانية. وبالرغم من إعادة ترميمه بشكل جميل، الا ان اضرارا لحقت بالمبنى عند بداية الحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عاما، ذلك الجرح اللبناني الذي لا يغيب أبدا عن مخيلة شاغل السراي الكبير منذ ثورة الأرز في عام 2005، رئيس الوزراء فؤاد السنيورة.

في الفترة، بات ذلك الجرح يهدد بمعاودة النزف، ففي إحدى امسيات كانون الاول -ديسمبر الماضي، هدد آلاف المحتجين من جماعة حزب الله الشيعية المسلحة وفصائل أخرى باقتحام بوابات السراي، واصفين السنيورة المدعوم من الغرب بأنه خائن بسبب ما زعم أن خذلان لحزب الله خلال حربه مع اسرائيل في الصيف الماضي. وقبل فترة وجيزة فقط كان مسلحون مقنعون قد اغتالوا احد زملاء السنيورة في الحكومة، وهو وزير الصناعة بيير الجميل. ولساعات لم يعرف احد اذا ما كان المحتجون يريدون التغلب على الحرس واقتحام المبنى لإخراج السنيورة ووزرائه من السراي، وربما إشعال فتيل حرب أهلية جديدة.

اعتقد حزب الله وحلفاؤه انه يمكن تخوين السنيورة، لكنهم ووجهوا في المقابل بموقف رجل غير مهزوز، حيث سارع السنيورة إلى الاتصال هاتفيا مع عدد من الزعماء اللبنانيين المختلفين ليعلن ثباته على موقفه والتزامه به. ويتذكر مروان حمادة، وزير الاتصالات في حكومة السنيورة، تلك الحادثة فيقول: quot; ارادوا منا اخلاء المبنى. لكنه قال: سأخرج من هنا فقط في حال موتيquot;. ويتذكر السنيورة تلك المواجهة خلال مقابلة مع مجلة quot;التايمquot; في مكتبه ثم حول مأدبة غداء في السراي لمدة ثلاث ساعات، فيقول: quot;لم أتمتع طوال حياتي بنفس تلك الدرجة من الصفاء. وبالرغم من المخاطر التي اعيها تماماً، فلا يُعتقدن على الاطلاق أني أواجه مشاكلquot;.

تراجع المحتجون، وأنقذ السنيورة مكاسب ثورة الأرز عندما طالب مليون لبناني في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 وفي ساحة الشهداء بانسحاب القوات العسكرية السورية. وهي التي هيمنت على البلاد لاكثر من ثلاثة عقود. ومع ذلك، يظل لبنان منقسماً على نحو عميق، وهي حقيقة تكرست في كانون الثاني ndash; يناير الماضي فيما يدعوه البعض يوم quot;الخميس الاسودquot;،عندما تسبب تلاسن في مقصف جامعة بيروت العربية بين طلبة سنة وآخرين شيعة في اندلاع اشتباكات مسلحة انتشرت في كافة ارجاء العاصمة اللبنانية.

لعل من الجوهري بالنسبة للبنان والشرق الاوسط والولايات المتحدة أن يفلح السنيورة في صون استقلال لبنان وفي قيادة اعادة الاعمار السياسي والاقتصادي فيه. وفي خضم الصراع الدائر بين حركة عربية ديمقراطية نادرة يدعمها الغرب وبين أحزاب نظامين سلطويين في سورية وايران، ستكشل هزيمته تفككاً لنموذج حريّ بأن تقتدي به الدول العربية، فضلا عن انها ستخيب أمل إدارة بوش في تحقيق قصة نجاح في الشرق الاوسط. ومن جهة اخرى، فان احراز سورية وايران وحلفائهما النصر ربما يعرض البلد الى نجوم صراعات مستقبلية مع إسرائيل، ما سيفضي الى هجرة جديدة للبنانيين المتعلمين.

ربما ينطبق على دفاع السنيورة في كانون الاول - ديسمبر عن السراي وصفه بأنه كان نقطة تحول في ذلك الصراع. وثمة دلالات على ان حدة الازمة قد خفتت، مؤقتا على الاقل؛ فقد تراجع الامين العام لحزب الله الشيخ حسن نصر الله عن خطابه السياسي المجيش، وسحب مؤيديه من الشوارع. اما حليفه السياسي الرئيسي قائد الجيش اللبناني سابقا، والرجل الطموح ميشال عون الذي يتمتع بدعم كتلة لها وزنها من المسيحيين، فقد أصبح يبدي قلقه علناً من ان تفضي احتجاجات مستقبلية من جانب المعارضة الى حدوث قتال مسيحي-مسيحي في لبنان.

في ذات الوقت، خفض المعلقون العرب الذين هللوا لانتصار حزب الله لمحاربته إسرائيل من نبرتهم، وتحولوا، على نحو غير مستغرب، الى الثناء على موقف السنيورة من موضوع الحرية. وكسب السنيورة في الغضون قلوب العديد من اللبنانيين، وبات يتمتع بدعم واسع في صفوف السنة والدروز والمسيحيين وبعض الشيعة على حد سواء. وعندما ينسلّ السنيورة من السراي لتناول وجبة في مطعم ما في حادثة نادرة، يؤخذ اصحاب ذلك المطعم بالمفاجأة ويستقبلون وصوله بالتصفيق. ويقول إيلي خوري، الناشط البارز والمؤيد للديمقراطية، ومؤسس الحملة الدعائية المعروفة باسم quot;انا احب الحياةquot; بهدف رفع الروح المعنوية عند اللبنانيين، ان السنيورة quot;مصدر فخرquot;. ويضيف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، احد اقوى حلفاء السنيورة quot;لدينا رئيس وزراء لا يتصرف كسياسي. لقد اثبت انه رجل دولة، وأن الانقلاب (عليه) كان ليعني انتهاء الحلم اللبناني بلبنان مستقل ومزدهرquot;.

في الاثناء، يبدو ان صفة رجل الدولة عند السنيورة تثمر ايضا خارج حدود لبنان الهشة؛ فقد نجح في كانون الثاني-يناير الماضي في احداث انقلاب سياسي عبر اقناع 41 بلدا في مؤتمر للجهات المانحة في باريس بالتعهد بتقديم 7.6 بليون دولار لاعادة اعمار لبنان. كما انه يدفع ايضا باتجاه عقد محكمة دولية يمثل امامها اي شخص توجه له تهمة نتيجة التحقيقات التي تجريها الامم المتحدة في الاغتيالات السياسية في لبنان.

وكان الاتهام وُجه، في قضية مقتل الحريري، صديق السنيورة منذ الطفولة، ومن بعده الصحافيين جبران تويني وسمير قصير وعشرات آخرين في تشرين الأول-اكتوبر عام 2004 الى النظام السوري. ويقول السنيورة ان بؤرة التحقيق quot;لا تتركز على معرفة الذي ارتكب هذه الجرائم، وإنما على حماية الديمقراطية. انها ليست عملية ثأر. انه واجب على الشعب اللبنانيquot;.

من الصعب الانحاء باللائمة على معارضي السنيورة لانهم أساءوا تقويمه من الناحية المبدئية؛ ذلك لأن القليل من خلفيته يؤهله لتسلم قيادة التوجه الديمقراطي اللبناني. كان محاسباً ومصرفياً من حيث المهنة، كما جاءه ارتقاؤه لتولي منصب رئيس الحكومة بحكم انه لبناني ينحدر من الطائفة المسلمة السنية، حسب متطلبات الدستور اللبناني. لكنه ليس أمير حرب طائفيا أو شيخ عائلة من النوع الذي عادة ما يضطلع بالعمل الخطر، والذي يتطلب أن يكون المرء سياسيا لبنانيا مرموقا. نشأ السنيورة في صيدا كوطني عربي متحمس، مثل الحريري الذي أسند إليه منصب وزير المالية خلال عملية اعادة اعمار بيروت التي دمرتها الحرب في التسعينيات. ونظرا لان نجل الحريري ووريثه السياسي سعد لم يكن يتمتع بالخبرة السياسية الكافية، وافق السنيورة على القبول بمنصب رئيس الوزراء بعد فوز حركة المستقبل بزعامة الحريري في الانتخابات البرلمانية التي جرت قبل سنتين.

بالرغم من لين عريكة السنيورة الذي يجعله أكثر مواءمة للتعامل مع المال، فان اغتيال الحريري وما جر إليه من قيام ثورة الارز وخروج القوات السورية، جره بصورة حتمية إلى الانخراط في المنكافات الاقليمية التي طالما جعلت من لبنان ارض معاركها السياسية. إلى ذلك، انسحب حزب الله من حكومة السنيورة في تشرين الثاني-نوفمبر، بعد اتهامه الحكومة بانها اصبحت مرهونة للولايات المتحدة، وبأنها نكثت بوعودها بالحكم بما يوافق عليه حزب الله. وكانت النقطة الفاصلة هي تصويت الحكومة للمضي قدما في اجراءات عقد المحكمة الدولية رغم اعتراضات حزب الله. وقال نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في تصريح لمجلة التايم quot;ان خشيتنا هي ان يعمد الساسة الى استغلال المحاكمة لتوجيه ضربة إلينا ولآخرين في لبنانquot;. وتبدي جماعة حزب الله تحسسا من ان تفضي التطورات في نهاية المطاف الى طلب الحكومة من حزب الله نزع سلاحه. وتقول الجماعة انها، بوصفها جماعة حرب عصابات، قد انهت الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر 22 عاما لجنوبي لبنان في عام 2000. ولذلك، تحتج بأنها تظل تحمل السلاح للدفاع عن البلد ضد اي هجمات اسرائيلية مستقبلية. وكما يبدو واضحاً، فان حزب الله يشعر بالريبة من احتمال فقدان نفوذه اذا ما تحول الى مجرد حزب سياسي.

يظل لبنان اليوم، كما في الماضي، ركنا اساسيا في الصراع الأعرض في سبيل الإمساك بالسلطة والنفوذ عبر الشرق الاوسط. وبينما أثنى الرئيس بوش على ثورة الارز، أعلن الزعيم الديني الايراني الأعلى اية الله علي خامنئي مؤخرا ان ايران ستهزم اميركا في لبنان. وبالاضافة الى التنافس على السطوة في لبنان، تبدو واشنطن وهي تناكف طهران ودمشق حول كل شيء، بدءا من برنامج ايران النووي، مرورا بمستقبل العراق، وانتهاء بموضوع السلام العربي-الاسرائيلي. ويقول السنيورة quot;لديك رغبة الايرانيين في تأسيس، لا اقول دولة تابعة، ولكن شيئا من هذا القبيل.. كما لديك السوريون الذين لا يشعرون بالخجل من (معارضة) المحكمة الدولية. ان ما يحدث في لبنان هو ان القلاقل تأتي من الخارج عن طريق استخدام لبنان. ونحن لا نريد ان يكون بلدنا أرض معركةquot;.

رغم ان السنيورة يرحب بالدعم الاميركي، فانه يشعر بالغضب من وسم المعارضة له بانه عميل لاميركا فيما يعود جزئياً إلى أن علاقته بواشنطن ليست دائما علاقة سهلة. فإلى جانب انتقاده ما يدعوه دعما quot;لجانب واحدquot;، أي لاسرائيل من قبل واشنطن، أعرب السنيورة عن غضبه خلال حرب حزب الله مع اسرائيل في الصيف الماضي عندما خيبت إدارة بوش توقعه بان تدعم الولايات المتحدة وقفا فوريا لاطلاق النار. وهو يصف اسرائيل بانها quot;آلة قتلquot;، والتي استخدمت اسر حزب الله لجنديين اسرائيليين كذريعة لاعادة احتلال لبنان. وبالرغم من ان معارضي السنيورة سخروا منه لانه قبل وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس على وجنتيها خلال زيارتها المكوكية الى بيروت، فقد بحث الجانبان، خلف ابواب مغلقة، الكيفية التي يمكن خلالها انهاء الاحتلال. ويقول السنيورة انه استدار في احدى المراحل الى احد مساعدي رايس وقال له quot;هذا هو موقفي حتى لو كانوا يعتزمون قصف السراي، ولن أحيد عنهquot;. ويقول السنيورة انه يرحب بالدعم الاميركي مثل تعهد واشنطن بتقديم بليون دولار كمساعدة طالما ان الامر لا يمس حقوق بلاده. ويضيف: quot;انا رجل براغماتي. اريد ان اتعامل مع الاميركيين وانا اعرف انه لن يكون هناك حل حقيقي اذا ما امتنعنا عن التعامل مع الاميركيين. لكن ليس على حساب مبادئي او على حساب بلدي وعلى حساب كرامتناquot;.

في النهاية، لينت الولايات المتحدة موقفها أمام رفض السنيورة السماح لقوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة باستخدام القوة، ودعمها لطلبه بان يدعو قرار الامم المتحدة الى انسحاب اسرائيل من منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها والتي يصر على انها اراض لبنانية يجب ان ينسحبوا منها. وقال: quot;لا استطيع الذهاب الى حزب الله وان اطلب منه تسليم سلاحه بينما لا يزال بلدي خاضعا للاحتلالquot;. وهو يريد من الولايات المتحدة ان تفعل المزيد للضغط على اسرائيل من أجل الانسحاب، لكن واشنطن تفضل حتى الآن عدم إلقاء المزيد من الاعباء على كاهل رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولميرت.

ساعد السنيورة في اقناع حزب الله بقبول فكرة أن وقف إطلاق النار تطلب فرض سيطرة الجيش اللبناني النظامي، ولاول مرة في 30 سنة، على جنوبي لبنان، والذي يشكل القاعدة الرئيسة لعمليات حزب الله. ومع ذلك، وفي الأعقاب، اغرق حزب الله لبنان في ازمة كانون الاول-ديسمبر عن إخراج مؤيديه الى الشارع للمطالبة بمزيد من السلطة. ورغم أن السنيورة يرفض التنحي، الا انه اظهر بعض المرونة، حيث عرض توسيع المجلس الوزاري ليضم المزيد من شخصيات المعارضة، ولبحث مسألة الحد من مدى تحقيق الامم المتحدة على ضوء مخاوف حزب الله من ان تفضي المحاكمة الى اصدار حكم يدين الحزب في احداث ارهابية كانت قد نسبت إليه، مثل نسف السفارة الاميركية في بيروت في عام 1983. والى الان، تظل المفاوضات مع حزب الله مع ذلك غير محسومة.

في الاثناء، وبالرغم من العوائق، يشعر السنيورة بالتفاؤل إزاء مستقبل لبنان فيما هو يقف على شرفة في السراي الكبير، حيث يطل على المحتجين على مرمى البصر، ويطل ايضا على بيروت اسفل منه، وحيث البحر الابيض المتوسط الى الغرب وجبال لبنان المكتسية قممها بالثلوج الى الشرق، ويقول quot;إن لدينا مزية الخبرة السابقة التي كانت خبرة مميتة. وليس ثمة خيار آخر أمام اللبنانيين سوى إدراك أن عليهم ان يعيشوا سويةquot;.

وربما يكون جمعه بين الإرادة الفولاذية المقرونة بالمرونة هو السبيل إلى شق الطريق نحو تحقيق ذلك الهدف المراوغ.