علي سعد الموسى
على زاوية المبنى المهترئ الضخم لمستشفى الشرطة المصري بحي العجوزة استوقفتني اللوحة النحاسية (الأنتيك)، تلك التي دخلت تلفزيونات الدنيا ليلة وفاة - النوبلي - الكبير نجيب باشا محفوظ. هذه هي نوعية الآثار التي أعشق وأحب. أخذني الفضول إلى سؤال عصبة أفراد الأمن المركزي على بوابة المستشفى: هل هو بالضبط ذات المستشفى الذي شهد النفس الأخير لهذا الرمز؟ نعم. ألم يكن بالإمكان نقله إلى مشفى بحجم أثر الراحل؟ يجيب بلغة الجندي البسيطة التي أنقلها من المصرية الدارجة للعربية: هذا هو أقرب مستشفى إليه فالراحل كان ساكنا بهذه العمارة (يشير بيده إلى عمارة قديمة لا يفصلها عن المكان سوى أمتار الشارع الضيق على الناصية). ولأنني بالفطرة لا آخذ كلام الجندي على محمل الجد خصوصاً والأمر يتعلق بمعلومة مهمة، فذهبت إلى مساءلة - الكاشيير - في كافتيريا نعمة الشهيرة أيضاً بزاوية ذات العمارة: أين هي العمارة التي كان يسكن بها نجيب؟ فوقنا بالضبط، وفي الطابق الثالث، وقد كان - رحمه الله - يمر من هنا كل صباح حتى الشهر الأخير في عامه الرابع والتسعين.
كان الوقت يقارب العاشرة مساءً، وأنا في مواجهة - البواب - على المدخل المظلم للعمارة وقد امتد نائماً فوق سرير خشبي متأبطاً ثوبه المصري التقليدي في ليلة برد قارس. أخذني (بالبخشيش) إلى باب الشقة العودي الداكن وقد بدت وحشة المكان كما لو أننا في زيارة مقبرة. هنا ما زالت - الست - ثم انصرفنا وهنا يبدأ خيط الفكرة من طرف تساؤلين: ماذا لو كان هذا - النوبلي - سعودياً أو خليجياً وكيف ستنهال عليه الهبات والعطايا وإلى أي حال ستصل به هذه الهبات وكيف ستكون ضجة الوسط الثقافي هنا لأن - نوبليهم - مات على الكفاف في شقة بالية في دور مظلم في عمارة قاهرية بنيت في الستينات؟ أيعقل أن يموت هذا الرمز العربي في عمارة تصعد بها على السلالم إلى دورها الثالث في حراسة - لمبتين - صفراوين تتدليان من أسقف مهترئة لا يشبهها شيء مثل شبهها بحبل المشنقة؟ هنا درس بقدر صعوبة فهمه، يصعب أيضاً تصوره واستيعابه إلا لمن مر على المكان مستذكراً حجم الرمز وتناهي المكان الذي عاش به ردح حياته الأخير في حالة - مكانية - من البؤس حتى لتخاله شخصياً قصة من تلك التي كتبها عن الحرافيش: كان كاتباً يستحضر نفسه.
كان نوبلياً يكتب عن شخصه حتى وإن رمز إليه باستعارة أسماء وهمية. أما لماذا اختار المكان وهو الذي كان له من مبيعات كتبه ومن - مليونه - النوبلي بالدولار أن يكون بين أباطرة قصور - المعادي - أو برجوازية مدينة السادس من أكتوبر أو حتى في أقل الأحوال من أنصاف الأرستقراط الذين استوطنوا مصر الجديدة ومدينة نصر. ربما يكمن الجواب في أنه بطبع المصري التقليدي يظهر على الدوام، خائفاً وجلاً من المستقبل. يقبض على القرش لأنه مؤمن أن الأيام السوداء ما زالت في القادم من مشارق الشمس التكرارية. ربما لأنه، وهذا هو الأصح رواية، تلبَّس جلود البسطاء والفقراء الذين لولاهم لما وجد أبطاله الحقيقيين على الورق الذين صنعوا منه ظاهرة أدبية عولمية جعلته ضمن أفضل ثلاثة في تاريخ الأدب العالمي من حيث قدرتهم المدهشة على رسم خرائط المدن وتفاصيل المجتمعات في قولبة روائية.
تسأل أحياناً ذات السؤال: لماذا ينفصل المثقف الخليجي والسعودي تحديداً عن خرائط المدن وتفاصيل المجتمع ليأتي الجواب: فتش عن نجيب محفوظ. تسأل أحياناً: لماذا لم ننتج - ظاهرة - روائية قصصية تسكن الدور الأول أو الثاني تحت قامة نجيب محفوظ في الدور الثالث فيأتي الجواب: فتش عن نجيب محفوظ. الجواب: عندما يصل المثقف أو الروائي الخليجي إلى عتبة الدور الأول من عمارة الإبداع ويصيب معها نصيباً ميسوراً من الشهرة تبدأ مرحلة الانسلاخ من العتبة الشعبية التي تصنع رمز الشخصنة ولهذا يندر في هذه المجتمعات طينة العمل الروائي الذي يبدأ من القصص الشعبية والأحياء الشعبية. البرجوازية والفوقية لا تصنع قصة. عندما يبدأ المثقف أو المبدع الروائي في الخليج رحلة الصعود ما بين طابقين يبدأ بفرد عضلاته على الاجتماع من حوله، بل وينظر أكثر من هذا إلى فرض إتاوة فكرية على المجتمع الذي لا بد له أن يبادله الجميل وأن يشكر له لأنه - المثقف - صاحب فضل عليه في مسيرة الإبداع والتنوير.
عندما ينال المبدع والمثقف الخليجي جائزة تقديرية أو يفوز في مسابقة محلية يبدأ في نبش ذاكرة الهبات والعطايا، ففي الخليج من العيب أن يعيش أو يموت المثقف في شقة ومن العار على حكومته ومؤسساتها المعنية بالثقافة ألا تكون هذه المؤسسات دار رعاية اجتماعية تكفل حياة ورفاهية أصحاب القلم لأن أصحاب الحرف لا يجب أن يعيشوا ويتعايشوا مع هموم الناس من حولهم ولا أن يشاركوهم ذات الحفاء والجفاء والمعاناة، ناهيك عن أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في مستشفى عتيق مثل مشفى الشرطة. عندما يبدأ المثقف والمبدع في الخليج رحلة الصعود ما بين طابقين لا يتنازل عن التراجع لقواعده ولو بدرجة واحدة من سلم البرجوازية الصاعد: لا يجوز له أن يذهب لمقاهي الحرافيش ولا تسعه بعدها إلا صوالين الأدب المصطنعة في منازل الأثرياء ودعوات المهرجانات مع المهرجين في فنادق النجوم الخمسة. المثقف الخليجي لا يأكل سندوتش الفول في مقاهي الحسين مثلما فعل محفوظ في تسعة عقود ولكن: ما هو الاسم الذي بقي في الذاكرة؟
- آخر تحديث :
التعليقات