السبت 7 أبريل 2007

د. عصام نعمان


ارتكب الفريق الحاكم (قوى 14 آذار) بتاريخ 3 ابريل/ نيسان 2007 فعلةً نكراء بحق لبنان. فقد تخلّى جهاراً نهاراً عن حق مجلس النواب وواجبه في درس ومناقشة وتشريع الاتفاقية الدولية المتعلقة بنظام المحكمة ذات الطابع الدولي المختصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. بل هو دعا مجلس الأمن الدولي طواعيةً وعلانيةً ودونما تحفظ إلى ldquo;إاخاذ كل الإجراءات (...) التي تؤمن قيام المحكمة الدولية (...) بما يؤدي إلى تحقيق العدالة ويعزز السلم الأهلي ويحمي العدالة والسلم الدوليينrdquo;.

إن مطلب ldquo;تعزيز السلم الأهلي وحماية العدالة والسلم الدوليينrdquo; يستوجب، غالباً، اعتماد أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ولاسيما المنصوص عليها في المادة 42 لجهة صلاحية مجلس الأمن في ldquo;أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابهrdquo;.

معنى ذلك، بصريح العبارة، إمكانية إنشاء قوة دولية مسلحة ونشرها في ربوع لبنان من أجل وضع قرار مجلس الأمن المرتقب لإقرار نظام ldquo;المحكمة الخاصة بلبنانrdquo; موضع التنفيذ. وبما أنه سبق لمجلس الأمن ان قضى بموجب قراره الرقم 1559 حلّ جميع الميليشيات في لبنان، فلا يُستبعد ان يعود الفريق الحاكم، متسلحاً بدعمٍ مكشوف من الولايات المتحدة وفرنسا، إلى اعتبار المقاومة بقيادة حزب الله مجرد ميليشيا وانها تحول دون ldquo;حفظ السلم والأمن الدوليrdquo;، فيطلب الى القوة الدولية العتيدة تنفيذ القرار 1559 بحقها وبالتالي تجريدها من السلاح.

غني عن البيان ان الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني لا تعتبر المقاومة اللبنانية ميليشيا بمدلول القرار 1559. من المنطقي، والحال هذه، أن يرفض اللبنانيون وحزب الله وجميع القوى الوطنية المؤيدة للمقاومة القوةَ الدولية، بل ان يبادروا إلى محاربتها بكل الوسائل المتاحة، الأمر الذي يزجّ لبنان مجدداً في اضطرابات أمنية قد تتطور إلى حرب أهلية.

حتى لو لم يستند قرار مجلس الأمن المنتظر الى الفصل السابع ولم ينشئ قوة دولية لتنفيذ أحكامه فإن الولايات المتحدة في ظل إدارة بوش وربما فرنسا في ظل خليفة جاك شيراك، قد يوعزان إلى ldquo;إسرائيلrdquo;، كما حدث عشية حرب يوليو/تموز العدوانية الأخيرة، بمهاجمة لبنان مجدداً بدعوى تنفيذ القرارات الدولية العالقة ولاسيما ما يتعلق منها بتجريد الميليشيات من السلاح وإزالة العراقيل الحائلة دون تنفيذ إجراءات المحكمة ذات الطابع الدولي... إياها.

هذه التطورات، الحالية والمرتقبة، تضع لبنان في مهب العواصف الإقليمية والدولية عشية حدث آخر مرتقب هو احتمال قيام إدارة بوش بتوجيه ضربة عسكرية صاعقة لإيران. فماذا عساها تفعل المعارضة اللبنانية، وقد كشف احد أركانها رئيس مجلس النواب نبيه بري معلومةً خطيرة مفادها ldquo;ان ldquo;إسرائيلrdquo; تقدمت بأكثر من طلب إلى الولايات المتحدة للانقضاض على لبنان مرة أخرىrdquo;؟

بات واضحاً ان جوهر الأزمة ليس المحكمة بل الحكومة، ذلك ان الفريق الحاكم مصرّ على الاستئثار بالحكم وبالعمل على انتخاب رئيس جمهورية جديد من بين أعضائه في الخريف القادم حتى لو اقتضى الأمر مخالفة العرف الدستوري السائد بوجوب حضور أكثرية موصوفة قوامها ثلثا أعضاء مجلس النواب لتأمين نصاب جلسة الانتخاب. أما أركان المعارضة فهم وإن سلّموا بتشخيص الرئيس بري لجوهر الأزمة، فإن من المشكوك فيه أن يراهنوا، مثله، على التماس التسوية بدعوة السعودية الى استضافة أركان الموالاة والمعارضة في الطائف مجدداً بغية إنتاج اتفاقية مصالحة على غرار اتفاقية مكة المكرمة بين المنظمات الفلسطينية المتصارعة.

حتى لو استضافت السعودية أركان الموالاة والمعارضة فإن ذلك لا يغني المعارضة والقوى الوطنية والديمقراطية عن الارتفاع إلى مستوى خطورة الأزمة باعتماد نهج مغاير في معالجتها. ذلك يقتضي، فيما أرى، اعتماد ثلاث خطوات متكاملة:

* أولا، مبادرة المعارضة والقوى الوطنية والديمقراطية الى عقد مؤتمر وطني يصار فيه إلى التوافق على تشخيص موحد للأزمة المتفاقمة ونهج معالجتها من خلال برنامج مرحلي للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتكوين كتلة شعبية تاريخية تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذه بمرحلتيه الانتقالية والتأسيسية.

* ثانيا، قيام رئيس الجمهورية العماد اميل لحود، بالاتفاق مع قوى المعارضة المؤتلفة في المؤتمر الوطني، بإصدار مرسوم يعتبر حكومة فؤاد السنيورة الفاقدة الشرعية بحكم المستقيلة، وتأليف حكومة وطنية جامعة من شخصيات مستقلة وازنة تلتزم البرنامج الإصلاحي المشار إليه آنفاً، مهمتها وضع قانونٍ للانتخابات ديمقراطي وعادل على أساس التمثيل النسبي، وإجراء انتخابات نيابية بموجبه قبل انتهاء ولاية الرئيس لحود، أو خلال الأشهر الستة التي تعقب تولي الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية نتيجة انتهاء ولايته وتعذّر انتخاب خلفٍ له.

* ثالثا، الجهر علنا بالاعتراضات القانونية والسياسية على نظام المحكمة ذات الطابع الدولي كمقدمة لرفضه بصيغته الراهنة، وبالتالي اقتراح صيغة بديلة تحمي السيادة الوطنية والنظام القانوني اللبناني كما تؤمّن كشف حقيقة الجرائم السياسية المقترفة خلال السنتين الماضيتين وإنزال العقاب الصارم بمقترفيها.

في هذا السياق يقتضي التنويه بالعمل المثمر الذي قام به المحامون والحقوقيون المشاركون في المؤتمر الذي عقده ldquo;المنتدى الاشتراكيrdquo; أخيراً ووضعوا في ضوء مناقشاته حول مشروع نظام المحكمة ذات الطابع الدولي بياناً تضمّن الملاحظات الآتية:

إن المشروع المذكور ينتهك السيادة والدستور اللبنانيين بتعطيله اختصاص القضاء اللبناني وسَوْق اللبنانيين الى التحقيق والمحاكمة أمام مرجع قضائي أجنبي (دولي) لا يدّ للسلطة الشرعية اللبنانية في تعيين أعضائه، إذ تتألف أغلبية هؤلاء من قضاة أجانب.

مع العلم بأنه لا يصحّ تجاوز المحاكم الوطنية إلى محاكم دولية أو ذات طابع دولي إلا في حالات جرائم ابادة الجنس وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

إن المشروع المذكور يصادر سلطة المجلس النيابي اللبناني بإعطائه قضاة المحكمة المذكورة سلطة تحديد القوانين الإجرائية وقواعد الإثبات الواجب العمل بمقتضاها، ناهيك عن سلطة تعديلها! كما انه يتناقض في العديد من بنوده مع مبادئ قانونية راسخة كحجّية القضية المحكوم بها بحيث لا يتعرض ظنين او متهم لمحاكمة ثانية عن جرم سبق له ان حوكم عليه، وعدم رجعية الملاحقة الجزائية، ومبدأ مرور الزمن بحيث لا يعود لسلطة الادعاء حق الملاحقة في جرائم سابقة من دون مراعاة مهل إسقاط زمنية؛ وتجاوز قوانين العفو العام الصادرة عن السلطة التشريعية اللبنانية والعفو الخاص الصادر عن رئاسة الجمهورية.

إن اختصاص المحكمة الخاصة مفتوح زمنيا، كما هو واضح من المادة الأولى في كلٍ من مشروعي الاتفاق بين الأمم المتحدة ولبنان والنظام الأساسي للمحكمة، وكذلك من المادة 21 من مسودة الاتفاق التي تتيح تمديد صلاحية المحكمة لإنجاز عملها لمدة (أو مدد) إضافية يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة ومجلس الأمن بالأمر الذي يجعل السيادة الوطنية مرتهنة لقرار خارجي، ولزمن غير محدد، فضلا عن ان ذلك يجعل أعباء المحكمة المالية الملقاة على عاتق المكلّف اللبناني باهظة جدا، ولا سقف لها، إذ إن حصة لبنان تصل إلى 49 في المائة من التكاليف الإجمالية لمحكمة ليس معروفا متى ستنتهي صلاحيتها.

إن كل ذلك يشهد على حقيقة الأغراض المتوخاة من إنشاء المحكمة المذكورة، وهي أغراضٌ انتقامية بحق لبنان، وبحق هذه او تلك من فئات شعبه، ولاسيما بحق المقاومة اللبنانية، وبالتالي لا بد من رفض الاستهدافات السياسية الفعلية لهذه المحكمة، سواء منها تلك التي تقف وراءها قوى عظمى غير مهتمة الا بمصالحها الخاصة وبتصفية حساباتها مع خصومها، إن في لبنان أو في المنطقة، أو تلك التي تتعلق بقوى سياسية ومالية محلية تسعى لتدويم سيطرتها على الساحة السياسية ولتمرير مشاريعها الاقتصادية والأمنية، المتعارضة مع مصالح الشعب اللبناني.

إن الصيغة الوحيدة للمحكمة ذات الطابع الدولي التي يمكن الموافقة على اعتماد نظامها هي تلك التي تحمي السيادة الوطنية وتؤمن كشف حقيقة الجرائم السياسية المقترفة في السنتين الأخيرتين وإنزال العقاب بمقترفيها. أجل، المطلوب محكمة او محاكم على غرار المحاكم غير العادية المعتمدة لدى دولة كمبوديا (حيث أودت فيها جرائم القتل الجماعي في عهد الخمير الحمر بأكثر من مليوني مواطن) وهي محاكم تمارس اختصاصها على الأرض الوطنية، وتشارك فيها أقلية فقط من القضاة الدوليين، ويرأسها قضاة وطنيون يعيّنهم جميعا مجلس القضاء الأعلى الكمبودي. وحتى القضاة الدوليون يعيّنهم القضاء الكمبودي نفسه من ضمن قوائم يقدمها الأمين العام للأمم المتحدة، أي العكس تماما لما هي عليه الحال في مسودة النظام الأساسي للمحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان.

بمثل هذه المحكمة أو المحاكم نحول دون ان يقضي القضاء الدولي على سيادة لبنان!