تركي الحمد

أفرد خريطة العالم أمامي محاولاً تحديد تلك المناطق التي يسود فيها العنف في العالم، فأجد نقطة ساخنة هنا ونقطة ملتهبة هناك. أجد نقطة كانت ساخنة وبردت، وأخرى كانت ملتهبة وانطفأت.

العنف جزء من تاريخ الإنسان، بل إن التراجيديا الإنسانية على هذه الأرض بدأت بالعنف، وذلك حين قتل قابيل أخاه هابيل، فكانت بداية التاريخ الفعلي للبشر، فالعنف جزء من الطبيعة الإنسانية: laquo;وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. (البقرة، 30)، وما الحضارات في جوهرها إلا محاولة الإنسان كبت هذا الجزء العنيف في ثناياه، وما الدولة إلا محاولة قمع هذا العنف، وإن كان بالعنف ذاته، ولكن كل ذلك لا يلغيه من الأعماق. ففي لحظة غضب يمكن أن ينفجر هذا العنف، متخطياً كل الحواجز التي تحاول ضبطه بشكل أو بآخر. العنف كان وما زال وسيبقى رفيقاً للإنسان في تاريخه، طالما بقيت طبيعة هذا الإنسان تحمل في ثناياها بذور العنف والدمار، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.

ولكن أن يكون العنف جزءاً من طبيعة الإنسان لا يعني أن يكون ظاهرة عامة أو مهيمنة كل الهيمنة على تاريخ الإنسان. قد ينفجر في هذه اللحظة أو تلك، ولكنه لا يستمر كأحد أنماط الحياة، وذاك هو الفرق بين الإنسان والوحوش الكاسرة. صحيح أن الإنسان يحمل في أعماقه وحشاً قابلاً للظهور حين يُستثار، ولكنه يحمل في ذات الوقت ملاكاً قابلاً للظهور أيضاً، وهذا هو الإنسان في النهاية: وحش وملاك في عين الوقت. العنف إذاً ظاهرة إنسانية باقية طالما كان هنالك إنسان على وجه البسيطة، ولا يمكن إلغاؤه نهائياً، كما تصور بعض الطوباويين، ولكن يمكن التحكم فيه، وتوجيه طاقة العنف في الإنسان إلى غايات أخرى تغني الحياة بدلاً من تدميرها، وذلك بمعرفة أسباب هذا العنف، والظروف التي تستثيره.

من هذا المنطلق أخذت أحدث نفسي وأنا أقلب نظري في خريطة العالم، باحثاً عن بؤر العنف السائدة في عالم اليوم، فلم أجد أكثر من تلك التي تنتشر في منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط. ففي كل مكان في عالم اليوم، كان هنالك بؤرة توتر تنقلب في نهاية الأمر إلى بؤرة عنف مدمر، ولكن هذه البؤر تبدأ وتنتهي وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، ورغم أن الارهابيين القتلة لا يمثلون الأكثرية بل الأقلية، إلا أنه يبدو العنف في هذه المنطقة من العالم يشكل دائرة لا يُعرف أولها من آخرها. كل رقعة من منطقتنا تقريباً، لا تكاد تخلو من بؤرة عنف أو أكثر، وطوال تاريخنا laquo;المعاصرraquo;. ففي لبنان، لا يكاد التوتر والعنف يغادره إلا للحظات خاطفة من الزمن. وذات الشيء يمكن أن يُقال عن السودان والعراق واليمن والجزائر وإيران وباكستان وأفغانستان وبقية المنطقة، لدرجة أنه أصبح يمكن القول أن العنف يكاد يتحول إلى ظاهرة شرق أوسطية أكثر من كونها ظاهرة إنسانية شاملة في عالمنا المعاصر. ولتبيان هذه laquo;الخصوصية الشرق أوسطيةraquo; الحالية، فإن شيئاً من المقارنة يمكن أن يوضح الصورة. فرغم أن الهند وباكستان مثلاً يشتركان في الموقع الجغرافي، وفي الأصل الواحد لسكانهما، وثقافة معيشية مشتركة، إلا أن العنف هو سيد الأحكام في باكستان، بينما هو أحداث منعزلة في الهند لا تصل إلى حد الظاهرة. ورغم أن الهند والعراق ولبنان يشتركان في أمور كثيرة، مثل التعددية الطائفية، إلا أن العنف لم يلبث أن كشر عن أنيابه ما أن أُعطي الفرصة للظهور في العراق والسودان، والتوتر هو القابض على زمام الأمور في لبنان، وهو يكاد ينفجر عنفاً، كما حدث مرات ومرات في تاريخ هذا البلد.

لم نختر هنا للمقارنة بلداً أوروبياً أو أميركياً، بقدر ما اخترنا بلداً ينتمي إلى منظومتنا، أي منظومة العالم الثالث، ويشترك معنا في أمور كثيرة، كي تكون الصورة أوضح. لماذا تكون الهند، وغيرها بطبيعة الحال، بهذا المستوى من السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي، بينما منطقتنا تعاني من كل هذا العنف؟ هل لأن جينات المنتمين إلى هذه المنطقة من العالم تختلف عن جينات بقية سكان العالم؟ ليس هذا هو الجواب بطبيعة الحال، فالكل يولد إنساناً، لا فرق بين هندي أو عربي أو فارسي أو أوروبي، ولكنها البيئة، من سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، التي يعيش فيها هذا الإنسان هي التي تشكله في النهاية. العنف قابع في كيان كل إنسان، بغض النظر عن عرقه أو لونه أو معتقده، ولكن هنالك ظروف وعوامل تستثير هذا العنف فينفجر مدمراً، كما في منطقتنا، وهنالك ظروف تروض الوحش الكامن في الأعماق فلا يجد فرصة للظهور، كما في الهند وبلاد الله الأخرى مثلاً، فما هي تلك الظروف والعوامل التي استثارت وتستثير العنف في أعماق إنسان هذه المنطقة من العالم؟ ليس هنالك جواب جامع مانع بطبيعة الحال، فالسبب والنتيجة ليسا أمراً بسيطاً عندما يتعلق الأمر بظاهرة اجتماعية، ولكن هنالك عوامل لا يمكن التغاضي عنها، ويمكن اعتبارها عوامل رئيسة في استثارة العنف داخل إنسان هذه المنطقة.

أول هذه العوامل هو عنف الدولة في المنطقة، فالعنف يولد العنف في النهاية، ويُربي العنف في أعماق الذات، رغم توطن الخوف في النفوس، وهذا هو الأخطر. لقد نشأت الدولة كي تحتكر أدوات العنف من أجل وقف العنف في المجتمع، ولكن حين تتجاوز الدولة حدودها في ممارسة العنف ضد المجتمع، فإنها تستثير عنفاً مضاداً من ناحية، وتنمي ثقافة يكون العنف أحد مكوناتها الرئيسة. ففي مثل الحالة العراقية الراهنة، فإنني أعتقد أنه ما كان لكل هذا العنف أن يهيمن لولا ممارسات النظام العراقي المنهار، ومأسسته للعنف من خلال أجهزة الرعب. القضية في العراق ليست قضية سنة وشيعة أو حتى وجود احتلال على الأرض العراقية، بقدر ما أنه ثقافة عنف تنامت في النفوس من خلال ممارسات النظام السابق. صحيح أنه قد يكون النظام السابق قد نشر الفرقة بين أبناء المجتمع، وهو قد فعل، فأحس البعض بالغبن وهم ينشدون التعويض حالياً. وصحيح أن الاحتلال بغيض وكريه إلى النفس مهما كان laquo;طيباًraquo;، أو يحاول أن يكون طيباً، ولكن كل ذلك لا يبرر مدى العنف الذي يهيمن على المجتمع العراقي، لدرجة أنه أصبح عنفاً لأجل العنف في كثير من الأحيان. قسوة الدولة وعنفها المتجاوز للحدود هو عامل رئيس في نشر ثقافة يصبح الدم فيها هو قدس الأقداس. قد يؤدي عنف الدولة إلى نشر سلام ظاهري قائم على الخوف، ولكن كل الخوف من الخائف حين تأتيه الفرصة وتتهيأ له الظروف.

وثاني هذه العوامل هو هيمنة أوهام بعينها على عقل المنتمي إلى هذه المنطقة من العالم، يتحدد من خلالها موقفه من العالم من حوله، وسلوكه وفقاً لذلك. والمشكلة أن مثل هذه الأوهام القاتلة يبشر بها أولئك الذين من مهمتهم فضحها، أي المثقفين، وتغرزها الدولة في النفوس لأغراض آنية، وهي التي ستكوي بنارها بعد حين. ولعل أهم هذه الأوهام هي وهم المؤامرة، ووهم الاستهداف، ووهم العظمة والمهانة معاً، وهي كلها أوهام يمكن جمعها في وهم واحد متشعب الأطراف. لا يوجد أحد من المنتمين إلى هذه المنطقة تقريباً، إلا من رحم ربك، إلا ويعشعش في ذهنه وهم أن العالم يستهدفه وأمته دون خلق الله أجمعين، ويحيك له المؤامرات في كل حين، وذلك لأنه عظيم لا يريدون له الانطلاق، ولأجل ذلك هو خائف كل الخوف، فهو لا يستطيع مقارعتهم في أي مجال، ومن هنا يشعر بدونية ممزوجة بمهانة، رغم أنه يشعر بعظمة تملأ عليه نفسه من كونه محل استهداف. من هذا الخليط الذهني والثقافي، يبرز وحش العنف أنيابه من داخل الذات، استعداداً للخروج عنفاً مدمراً. شعور الدونية ممزوجاً بإحساس العظمة مغلفاً بعدم القدرة مغموساً بخوف رهابي، يخلق الظرف المناسب لعنف ينفجر ولو بعد حين.

وثالث هذه العوامل هو هيمنة ثقافة ساكنة لا تريد أن تتغير، للاعتقاد بأن كل مكون من مكوناتها فيه شيء من القداسة، وبالتالي فكلها تابوه لا يجب المساس به، مع أن ثقافة الاسلام الاول في جوهرها متسامحة، وهناك مساحات تسامح عديدة في تاريخ المسلمين. لكن الثقافة في جزئها الأكبر، هي تراكم معرفي في الأول والآخر، ناتج عن تعامل الإنسان مع محيطه، أي أنها دنيوية الشكل والمضمون، ولا قدسية إلا للمقدس ذاته، وهو واضح ومعلوم. ولا يُراد لها أن تتغير، إذ أن تغيرها يعني تغير أشياء، وهنالك من المصالح ما لا يريد لأي شيء أن يتغير، لأن التغير يعني ضياع تلك المصالح، ولذلك فإنه ليس في الإمكان أفضل مما كان. بطبيعة الحال ليست المصالح وحدها هي من يقف وراء سكون الثقافة، ولكنها تلعب دوراً رئيساً في بقاء الحال على الحال. ويسهم في استمرارية سكون مثل هذه الثقافة استبداد الدولة وعنفها، الذي يُبرر في كثير من الأحيان بمقولات مبتسرة من تلك الثقافة، وتلك الأوهام المتحدث عنها آنفاً، بحيث تجعل هذه الثقافة هي محل المؤامرة والاستهداف، وبالتالي كلما رسخت تلك الأوهام أكثر، كلما كان السكون أقوى، في حلقة لا يُعرف لها بداية من نهاية.

إنسان منطقتنا ليس مسخاً ولا هو مختلف جينياً عن بقية عباد الله، ولكنه يعيش في بيئة تهيئه، بقصد أو بغير قصد، لأن يكون عنيفاً أكثر من غيره، ولن نخرج من دائرة العنف هذه إلا بتغيير بيئة العنف، فهل نغيرها، أم نبقى أسرى العنف إلى آخر الزمان.. هذا هو السؤال، وفيه يكمن كل جواب.