د. برهان غليون
استخدمت العديد من حكومات الدول الكبرى وقوى سياسية مختلفة، خلال العقدين الماضيين، تزايد عمليات العنف التي تنفذها بعض التيارات الإسلامية المرتبطة بـquot;القاعدةquot;، أو التي أصبحت توقع عملياتها باسم quot;القاعدةquot;، في سبيل تعبئة الرأي العام العالمي حول سياساتها الأمنية، وجره نحو مواقعها الرامية إلى تحويل الحرب على الإرهاب إلى محور للسياسة الدولية. ويتساءل كثيرون من أنصار الرد العنيف على العنف والحد من الحريات العامة ومضاعفة إجراءات الملاحقة والتفتيش والمتابعة الأمنية... عما إذا كانت المجموعة الدولية قد قامت فعلاً بما يكفي من الجهود لمقاومة الإرهاب!
لكن الدول والقوى الطامحة إلى استخدام الحرب ضد الإرهاب لتحقيق أجندة سياسية واستراتيجية خاصة بها، تحاول -على شاكلة الإدارة الأميركية- أن تردع مناوئيها باتهامهم ضمناً بالمسؤولية عن توسع العنف، لأنهم لا يقروا جميع الوسائل والإمكانيات اللازمة في معركتها ضد العنف. وإذا ما تحققت تلك الرغبة، فالوقت لن يطول قبل أن يسقط العالم بأجمعه تحت نظم أمنية لا همّ لها سوى تجديد سلطة البيروقراطية العسكرية والمخابراتية بحجة مواجهة العنف. وهو ليس مجرد خطر محتمل، بل خطر جاثم، لاسيما أن الدولة الأعظم هي من تقف وراءه، وتتخذ منه درعاً واقياً في مواجهة جميع الذين ينتقدون سياساتها الكارثية في الشرق الأوسط والقوقاز ومناطق أخرى من العالم.
والحال أن العالم لم يشهد عنفاً أكثر انتشاراً مما حصل بعد تطبيق نظرية الحرب العالمية ضد الإرهاب. لذلك فالمطلوب هو معرفة ما إذا كانت هذه النظرية والاستراتيجيات التي اتبعتها ليست هي المسؤولة عن توسع دائرة العنف، بدلاً من الحديث عن ضعف الجهود المبذولة لوقف الإرهاب أو تردد قطاعات الرأي العام في دعم تلك الجهود! وليس من المبالغة القول إن توسع دائرة انتشار العنف يبرهن على الإخفاق الذريع لنظرية الحرب العالمية ضد الإرهاب، أكثر ما يؤكد نقص الموارد المخصصة لتطبيقها. فما كان من الممكن تصور مثل هذا الانتشار لو اتخذت المجموعة الدولية إجراءات لحل المشاكل العالمية المولدة للعنف، بدل المصادقة على الجهود الحربية، تجنباً لطرح المسائل الحقيقية. لكن حتى على هذا المستوى ما كان من المتوقع أن تسفر الحرب عن مثل هذا الإخفاق الذريع لو لم تستخدم لأغراض سياسية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالقضاء على العنف ذاته.
والمقصود أن الحرب العالمية ضد الإرهاب أخفت منذ البداية أجندات متعددة تصب جميعاً في عملية استعادة المبادرة من قبل قوى السيطرة العالمية على حساب آمال التغيير والتحول الايجابي لصالح الشعوب والفئات المحرومة. فقد جاءت بداياتها مع تنظيم أول مؤتمر عالمي ضد الارهاب في شرم الشيخ عام 1998، الذي كان يهدف إلى التضامن مع سياسات إسرائيل التوسعية، ومساعدتها على عزل الشعب الفلسطيني وكسر إرادته ومعنوياته، لتمكين تل أبيب من الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وضمها. ثم أصبحت هذه الحرب الغطاء النظري والأيديولوجي لتبرير سياسات السيطرة الأميركية العالمية، في الشرق الأوسط خصوصاً، قبل أن تتحول إلى محور للسياسة الدولية وأجندتها الرئيسية، في سياق سعي جميع النظم القائمة إلى استخدام الحرب ضد الإرهاب ذريعة للتغطية على المشاكل الداخلية والهرب من المسؤولية.
هذا ما يفسر أن الحرب ضد الإرهاب قادت بالفعل إلى تنمية الإرهاب، وذلك بقدر ما وضعت الشعوب المعرضة للتهديد، وبعضها كما في فلسطين والعراق للإبادة الوطنية والاضمحلال، في مواجهة تحد لم تعرفه من قبل، وهو تحدي تعبئة الرأي العام العالمي بأكمله ضد حقوقها ومن وراء ذلك تبرير سياسات القوى التي تنتهك هذه الحقوق. فلم تنعم السيطرة الاستعمارية بفترة سماح أطول وأكثر رحابة صدر مما نعمت به في العقدين الماضيين السياسات الأميركية في القوقاز والشرق الأوسط وأفريقيا. ولا وجدت إسرائيل ظرفاً أكثر ملاءمة لتوسيع رقعة الاستيطان وتعزيز وجودها في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة، وضرب مصالح الشعوب عرض الحائط، كما حصل خلال عشرين سنة الماضية أيضا.
لكن الحرب ضد الإرهاب لم تستخدم فقط من قبل الدول الكبرى وإسرائيل لاستعادة السيطرة والمبادرة في مناطق النفوذ التي بدأت تهتز تحت أقدامها فحسب، ولكنها استخدمت ولا تزال تستخدم أيضاً من قبل النظم الأوليغارشية من أجل تعزيز سيطرتها الداخلية، وإغلاق أفق الإصلاحات الديمقراطية وتقوية قبضة النخب صاحبة المصالح على موارد شعوبها ومصائرها معاً.
هكذا تحولت الحرب ضد الإرهاب إلى شعار يخفي الحرب المعلنة ضد الشعوب وحريات أفرادها ومصالحهم ومستقبلهم في كل مكان، وصارت غطاءً تجري من تحته عمليات الاستفراد بالقرار، ونهب الدول، وتحييد المجتمعات، وولادة مافيات دولية تتفاهم من وراء ظهر الشعوب وعلى حسابها، من أجل تبادل المصالح والخدمات، من وراء الشعارات والخطابات الدعائية المعسولة. وما كان من الممكن لهذا الوضع إلا أن يقود إلى مزيد من التقهقر والتدهور في شروط حياة الشعوب، مع زيادة انعدام الأمن الشخصي، وتصاعد عمليات القمع والقهر والاختفاء، وتفاقم ظواهر الفقر والبطالة وانتهاك القانون وتضييق حقل الخيارات أمام جميع السكان.
لم يخلق هذا الوضع ظروفاً أفضل لتعبئة الشباب الفاقد لأي أفق أو أمل، والباحث عن مخرج فحسب، بل ضيقت عليه جميع السبل الاقتصادية، مما أعطى مبررات أكثر لمنطق العنف وقضيته. فبقدر ما قوضت الإجراءات الأمنية التعسفية التي يقدم معتقل غوانتانامو وأبو غريب ومحاصرة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، والتنكيل بالناشطين السياسيين والمدنيين في معظم الدول العربية... أفضل تجسيد لها، أقول بقدر ما قوض ذلك صدقية النظم السياسية والحلول القائمة على احترام الآخر وقيم العدالة والمساواة والتطبيق الدقيق للقانون، فقد جعل من استباحة هذه القيم والقوانين نفسها من قبل الجماعات الإرهابية أمراً عادياً ومقبولاً لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، وبرر للكثير من الشباب العاطل والناقم سلوك مسلك الإجرام والعمل على أسس لا قانونية بل إرهابية.
لذلك ليس من الغريب أن تكون الحرب العالمية التي أعلنت ضد الإرهاب هي السبب الأول لتوسيع دائرة انتشار العنف والإرهاب، بقدر ما كانت هذه الحرب في الواقع حرباً على استقلال الشعوب وسيادتها وحرياتها وحكم القانون فيها. وإذا كان من غير الممكن لعاقل أن لا يدين الأعمال الإرهابية، فمن غير المعقول أيضاً أن لا يدين أولئك الذين حولوا، ولا زالوا يحولون- بسياساتهم العدوانية ومغالاتهم في الاستهتار بمصالح الناس وحقوقهم ومشاعرهم- شباب الشرق الأوسط أنفسهم إلى متمردين على القانون وإرهابيين أيضاً.
التعليقات