بغداد - عبدالكريم محمد


قبل خراب البصرة أو بعده، لا فرق. فالسفر الى البصرة برا لم يعد يختلف كثيرا عن السفر الى أكواخ 'البصيرة' قبل أن تأخذ اسمها المكبر في عهد ولاية 'أبو موسى الأشعري' مابين 638 ـ 650 للميلاد.. كانت قبل ذلك تسمى بأرض الهند بسبب توافد التجار الهنود إليها. وبعد أن اتخذتها الجيوش الإسلامية معسكرا ومثابة لتحرير العراق تأسست البصرة في السنة الرابعة للهجرة '653' للميلاد في عهد عتبة بن غزوان.
غير أن الذهاب إليها أو القدوم منها ظل محفوفا بالمخاطر. فكثيرا ما تعرض المسافرون والقوافل التجارية الى مداهمات اللصوص وقطاع الطرق.. ويشير الكثير من مذكرات الرحالة الأجانب الى شتى أنواع المصاعب التي تعرضوا لها أثناء قدومهم إليها أو 'هروبهم' منها، على الرغم من إعجابهم بها ووصفها 'ببندقية الشرق'.

البصرة، 'لؤلؤة الخليج وعين العراق وميناء المعمورة ومدينة البحارة والأنس والجمال والبهارات والعطور. ومدينة عتبة والأصمعي وابن سيرين. والأعجوبة والآية والمعجزة والأحدوثة وباب بغداد الكبير ومدخل دجلتها'، أسماء تعددت عبر القرون لمدينة ظلت تحتفظ بغلظة أرضها وكثرة حصباتها وبياض تربتها. وظل الطريق إليها حافلا بالكثير من روايات الرعب التي ما زالت ذاكرة العراقيين متخمة بها.
'ماكوشي'!

يقول ناظم العبيدي، روائي عراقي: ليس سعيا لرسم بورتريه عن الرعب الجمعي المزمن في الذاكرة العراقية لقصص هذا الطريق المتعددة والتي غالبا ما تبدأ من خفض سرعة السيارة المفاجىء وارتجاج أجساد الركاب واستطالة أعناقهم والتفاتاتهم السريعة، ولكنني ما زلت أحتفظ بقدر كاف من القلق المتعاقب والطويل. وهو قلق كنت أراه في ارتباك السائق وحيرة المسافرين للتعرف على ما يدور أمامهم خارج الأتوبيس. وربما لا تنفع معه أخبار السائق العاجلة والتطمينية والمقتضبة: ماكو شي، سيارة مقلوبة/ رتل أميركي/ حادث اصطدام/ قطيع أغنام/ سيطرة.
ويضيف العبيدي: كل هذه 'المطبات' تأسست بسبب حوادث القتل والتسليب الكثيرة التي حصلت على مدى عقود. وصنعت لها حضورا متوارثا في الذاكرة العراقية.
قديما وحديثا

العبيدي، الذي لم يخف رعبه روى حادثة تسليب تعرض لها في تسعينات القرن الماضي قال. في مكان لا يبعد كثيرا عن ناحية 'علي الغربي' التابعة لمحافظة العمارة، لاحظ سائق الحافلة التي كانت تقل أكثر من أربعين مسافرا وجود عدد من جذوع الأشجار في الشارع، فبادر الى خفض سرعة السيارة بسرعة وتحاشي المعرقلات. ولكننا فوجئنا بتعرض الحافلة الى وابل من الرصاص. فتوقفت السيارة على الفور. ولاحظنا رجلا ملثما يقتحم السيارة ويأمرنا بالنزول سريعا.
وأضاف: فوجئنا أيضا بوجود أربعة مسلحين يتقدمون نحونا ويجبروننا على السير باتجاه ساتر ترابي قريب من الشارع. ثم أمرونا بالجلوس وعزلونا عن النساء وطلبوا منا خلع ملابسنا ومنحهم كل ما نملك من أموال وساعات وخواتم ونظارات وأحذية. ثم انهالوا علينا بالضرب والركل وأعادونا الى السيارة وسرعان ما اختفوا عن أنظارنا، هم وغنيمتهم التي وضعوها في أكياس كبيرة.
والمؤلم، يضيف ناظم أن عدة سيارات للأجرة كانت تمر من أمامنا ويكتفي سائقها وركابها بمعاينتنا واجتيازنا فقط. غير أن ما زاد من حزننا في تلك اللحظات هو ما أخبرنا به السائق عن سرقة اللصوص لكل حقائبنا وحاجاتنا أيضا.
العبيدي أوضح أن بعض السائقين كانوا يتفقون مع 'السلابة' على تسليب المسافرين. ويخبرونهم عن قرب الوصول الى الفخ. وبعد إتمام العملية ينال السائقون مكافآت مجزية. وهذا ما يحصل أيضا بين السلابة وبعض أفراد السيطرات الحكومية. غير أن ناظم أقر بأن ما حصل له يعد أهون بكثير من جرائم السيطرات الوهمية التي تجري حاليا في مناطق متفرقة على طول هذا الشارع أو غيره.
كراج الحروب

ليت الطريق الى 'أرض الهند' لا يبدأ من كراج النهضة 'السيئ الصيت'. من هذا المكان الذي طالما وصفه العراقيون بالغصة المزمنة ومرارة الحروب والضياع والأسى. فكم منهم من تشرد وبكى وفارق أهله ومحبيه في هذا الكراج؟. وكم منهم من سهر ألف ليلة وليلة على أرصفته وأجبر على مشاهدة أفلام الرقص والجوبي لحفلات الأثرياء الماجنة داخل مقاهي الكراج القذرة المليئة بالنشالين والمتشردين والمعتوهين والشقاوات والشاذين والسكارى؟. ومن منهم ينسى نهارات وليالي البؤس التي قضاها في باحة هذا الكراج طيلة عقود الحروب المليئة بالأسى، يوم كانت الحياة معسكرة ومهيأة لمزيد من المغامرات الطائشة والويلات والنكبات؟.
يقول محمد درويش علي، كاتب وصحافي: لا يمكن أن يتخلص هذا الكراج من 'عفونة' تاريخه. فهو ذكرى مريرة تأبى المغادرة. فمن ينسى باعة أحذية الجيش والرتب العسكرية وصباغي الأحذية وبائعات الهوى وباعة الشاي و'الفلافل' والبيض والقيمر والمجلات القديمة والتسجيلات الصوتية وأشرطة 'ملا ضيف الجبوري' والدبكات على إيقاع 'المطبج'؟. وأضاف: كانت أرصفة الكراج والجزرات الوسطية تمثل فنادق من الدرجة الأرضية. تؤوي جنودا جاؤوا من شتى المحافظات والأقضية والنواحي للالتحاق الى عوالم الملاجىء والقذائف والراجمات والخنادق والقصعة وتناكر الماء وسيارة الحانوت.
يصمت محمد قليلا ثم ينغمر في ذكرياته السقيمة، يقول: ما زالت أصوات السائقين ونداءاتهم تعشعش في أذني 'بصرة عل ناصريه، بصره عل عماره، بصرة بالدولفين بالجنح بالبهبهان بالسلبرتي بالكابرس بالسوبر بالمنشأة بالريم' ـ أسماء سيارات مختلفة باللهجة العراقية الدارجة.
محمد يرى أن كراج النهضة هو سجل مهترىء لذكريات الذاهبين الى مطاحن الموت قديما. والى ما يخبئه طريق البصرة حاليا من مفاجآت العصابات والقتل على الهوية. وهو تاريخ مؤطر بأزيز الرصاص وهدير الدبابات ودوي المدافع وسيوف الذباحين 'الأمراء'.
إنه الرعب

أخيرا تسللت الحافلة الصغيرة التي كانت تقلنا من داخل فوضى الكراج وصخبه.. سيارات كبيرة وصغيرة في تشابك مقيت. تلول من النفايات. عشرات من المتسولين وباعة الصحف والمجلات والحلوى والهدايا الرخيصة. وبعد أن تم تفتيش حقائبنا خرجت الحافلة من الكراج لتتخلص من أول مخاطر الرحلة، وهو وقوع انفجار في داخل الكراج كما حصل مرارا طيلة الشهور الماضية.
قال السائق: 'صلوا على محمد وآل محمد' فصلى الركاب جميعا بهلع وظلت أنظارهم مشدودة الى الطريق.
كانت أغلب الشوارع مغلقة بسبب حدوث عدة انفجارات في ذلك الصباح، فاضطر السائق الى التسلل من بين عدة أحياء سكنية وشوارع فرعية وهو ما أثار الهلع في نفوس المسافرين ومطالبتهم بعدم الابتعاد عن الشارع الرئيسي خشية أن يذهب بهم الى إحدى العصابات مثلما حصل للعديد من المسافرين!.
ولكن السائق عرض المزيد من التطمينات. وبدا وكأنه ملم بهذا النوع من المخاوف والطلبات التي يبديها ركاب سيارته منذ خروجه من الكراج.
لم يكن ركاب الحافلة من أهالي محافظة واحدة. بعضهم من سكان العاصمة بغداد. وآخرون من أهالي البصرة والعمارة. وكان اثنان منهم يعتمران الكوفية والعقال ويجلسان الى جانب امرأة عجوز بدت خائفة جدا وتكثر من الأدعية والسور القرآنية، خصوصا حين يسارع السائق الى إيقاف السيارة الى يمين الشارع لإفساح المجال لعبور رتل أميركي. أو حين تزعق منبهات سيارات الشرطة والجيش مطالبة السائقين بإفساح المجال لعبورها.
وعند أول سيطرة عسكرية توقفت السيارة وطلب أحد أفرادها من الراكبين جميعا إبراز هوياتهم. وحين اطلع على لقب أحدهم سأله بوقاحة: 'أنت لقبك'...... اشعندك رايح للبصرة!؟. فأجابه الراكب: لحضور مجلس عزاء لا أكثر. ثم تساءل مندهشا: ولكن لماذا تسألني!؟. فرد علية العسكري بحدة: 'مو شغلك!!'.
كانت هذه المساءلة الغريبة هي مقدمة لحوار ساخن نشب بين الركاب من لحظة اجتياز السيارة للسيطرة، تناول المشهد العراقي بكل فصوله وتداعياته. وأظهر وجهات نظر متقاطعة ومتشنجة أحيانا، مما اضطر السائق الى مطالبة الركاب بالصلاة على 'محمد' مرة أخرى. في محاولة منه لتخفيف حدة التوتر وتنقية الأجواء.
ولكن ما زاد من هلع الركاب وقلقهم هو حصول حادث اصطدام بين مدرعة أميركية وسيارة مدنية كانت تقل عائلة عراقية. وأدى الحادث الى مقتل وجرح عدد من أفراد العائلة.
وبعد دقائق أدى انفجار عبوة ناسفة الى تدمير جسر 'الرستمية'، جنوبي بغداد وحصول زحام خانق واضطراب في حركة السير، الأمر الذي دفع بالسائق الى العودة الى كراج النهضة والاعتذار للمسافرين عن مواصلة الرحلة!.
الضحك ممنوع!

الطريق الى 'أرض الهند' كانت تقطعه الحافلات القديمة في بداية سبعينات القرن الماضي بسبع ساعات فقط. في حين تستغرق الرحلة بين بغداد والبصرة الآن أكثر من عشر ساعات!. وهذا ما دفع بأحد المسافرين المتندرين لاستعارة حوار شهير عن إحدى المسرحيات العربية الذائعة الصيت، للتعليق على هذه المفارقة قال:'بالتاكسي ساعة ومشي عشر دقائق'!!.
ولكن هذه الطرفة لم تضحك أحدا من هؤلاء المسافرين المرعوبين والمنهمكين بمتابعة الشارع ومعاينة جهتيه بإمعان.
أحد الركاب، وهو عجوز طاعن في السن قال: كنا نسافر الى البصرة بسيارات من نوع 'باص خشب، نيرن دك النجف، جنح، أقجم، ألخرسه' ـ ألقاب كانت تطلق على عدد من السيارات القديمة. وأضاف: كان الشارع غير مبلط 'سدة ترابية' وكان ركاب أيام زمان هم خليط من العجائز والشرطة والجنود المتطوعين والباعة. ونادرا ما كنا نشاهد معلما!.وبين أنه كثيرا ما حشر نفسه داخل السيارة مع باعة اللبن والقيمر والأجبان، إضافة الى رعاة الأغنام وأغنامهم وأكوام من 'الجت'. وأقفاص الدجاج. ولم تكن في تلك العقود عبوات ناسفة ولا سيارات مفخخة ولا قطاع طرق. وكنا حين تصاب السيارة بعطل، ننام في العراء. أو نلجأ الى ساكني القرى القريبة للمبيت في بيوتهم الطينية.
ولكن العجوز أشار الى وجود 'سلابة' كانوا ينقضون على المسافرين الذين تقطعت بهم السبل في بعض المناطق. ووصف مثل هذه الحالات بالقليلة الحدوث على حد زعمه.
انتبه.. رتل أميركي!

سيطرات عديدة منتشرة على طول الطريق الى أرض الهند. وكل سيطرة تسلم الحافلات الى سيطرة أخرى.. سيطرة عسكرية وأخرى للشرطة وثالثة للمرور. وعند كل سيطرة تتوقف الحافلة. ويحدق أفراد الحرس في وجوه المسافرين ويطلبون من بعضهم أو من جميعهم إبراز الهوية.
وبقدر ما تعكس هذه السيطرات المسك بزمام الأمور. وحماية المسافرين، فانها لا تمنع من مخاوف وقلق الركاب من أن تغدو إحدى تلك السيطرات سيطرة وهمية هدفها الانقضاض على بعض المسافرين وقتلهم على الهوية. وتحويلهم الى خبر عاجل.
أحد الركاب قال: فقد شقيقي أثناء عودته من البصرة في هذه المنطقة. وادعى آخر بأن عائلة تسكن بجوار بيتهم فقدت قبل شهرين أثناء توجهها لزيارة أقاربهم.
وبينما تبدأ حوارات الركاب بتداول أخبار القتل والاختطاف، يشتعل في نفوسهم المزيد من المخاوف. ويسارع بعضهم عبثا الى الاتصال بذويه لطمأنتهم ولكن من دون جدوى بسبب عدم توافر تغطية لشبكة هاتفه النقال.
وكثيرا ما توقفت الحافلة بسبب اعتراض مدرعة أميركية. وقطع الطريق لحماية رتل أميركي يحاول اجتياز الجزرة الوسطية والاستدارة الى جهة أخرى.
غير أن الأمر يزداد سوءا حين تنفجر عبوة ناسفة مستهدفة رتلا أميركيا عابرا. وتؤدي الى انفجار إحدى العربات واشتعال النار فيها. ففي حالات كهذه يغلق الطريق لفترة زمنية طويلة لغرض إسعاف الجرحى وانتشال الجثث وتنظيف مكان الحادث من آثار الانفجار. وربما القيام بحملة مداهمات للأحياء والقرى القريبة.
وغالبا ما يخشى المسافرون من مرور أرتال أميركية من جانبهم. ويتوقعون حصول انفجار في أي لحظة.. وربما يبقى الخطر الأكبر الجاثم على صدورهم هو حصول عطل مفاجىء في الحافلة، قد يكون سببا في سلبهم أو مقتلهم.
الطريق المريض

يعاني الطريق الى 'أرض الهند' من كثرة التخسفات والمطبات والتحويلات المؤقتة التي تساهم في زيادة وقت الرحلة وترهق المسافرين كثيرا.
ويبدو أن الشارع لم تجر له أي تعديلات منذ عقود. وكل ما حصل له هو إزالة صور وجداريات ووصايا الرئيس العراقي السابق. والاستعاضة عنها بصور عدد من المراجع الدينية ورجال الدين الذين تم إعدامهم في عهده. إضافة الى صور متخيلة لبعض الرموز الدينية، محاطة بالأعلام السوداء والخضراء واليافطات والشعارات الدينية وأسماء الأحزاب والتيارات الدينية.
أما على جانبي الشارع فما زالت القرى الريفية تشبه الخرائب.. صرائف وأكواخ وبيوت مشيدة من طين. تطوف حولها الأبقار والجواميس والأغنام والحمير والكلاب. وما زال الأطفال العراة يسبحون في الشطوط وبرك المياه الأسنة ويلوحون للسيارات العابرة.
وعند كل سيطرة يتهافت الباعة من الأطفال والنساء والشيوخ لعرض بضاعتهم الرخيصة بطريقة هي الأقرب الى الاستجداء. في حين أغلقت العديد من المطاعم المنتشرة على طول الشارع. ولم يبق منها سوى مطاعم قليلة تقدم وجبات غذائية رديئة وغير مستوفية للشروط الصحية بسبب انعدام الرقابة.
غير أن ما يلفت النظر هو انتشار الصحون 'الستلايت' فوق أسطح الصرائف والأكواخ وبيوت الطين !.
أين أكواخ البصيرة؟

وصلنا الى البصرة. قالها السائق بلهفة، كما لو أنه فرغ من مهمة عسيرة. وأزاح عن كاهله حزمة من الهموم والمتاعب.
وكان قبل ذلك يردد اسم كل منطقة نصل اليها: 'وصلنا الى الصويرة والحفرية والعزيزية والكوت والحي وعلي الغربي وعلي الشرقي وكميت والعمارة وقلعة صالح والمجر والعزير والقرنة والدير والكرمه والهارثة والكزيزه وخمسة ميل والموفقية والومبي'.
كانت حرارة الشمس مرتفعة كالعادة. والهواء الحار يشوي الوجوه. بينما انتشرت من حولنا كراجات الأحياء السكنية وأسواقها المليئة بالنفايات. إضافة الى عدد من السيارات الحوضية التي كتب عليها عبارة ماء حلو.. Ro. وهي ترفع أعلاما عراقية ورايات ملونة مختلفة.
ويبدو أن أول ما يقنع المسافر بوصوله الى أرض الهند سالما هو مشاهدة الكثير من الرجال والشباب وهم يرتدون الدشداشة البيضاء ويعتمرون الكوفية والعقال.بينما ترتدي النساء البصريات ملابس سوداء 'وفوطة' سوداء تلف بها رأسها وعباءة سوداء أيضا تلفها حول جسدها.
وينتشر باعة الرقي والبطيخ على جانبي الشارع وهم يستظلون بحصران مثبتة بأعمدة 'القوق'.
ومن بعيد بدأت 'ساحة سعد' تتضح. ولكن قبل أن تصل إليها الحافلة، صاح السائق وهو يتحاشى مرور رتل عسكري طويل: هذا رتل بريطاني. فأجابه العجوز الطاعن في السن: 'هلا.. هلا ببو ناجي.. هلا بعمامنه الأوليين!!'.