كمال خلف الطويل
توقّفت مليّاً أمام تصريح بوغوص أكوبوف، الدبلوماسي السوفياتي السابق، حول موقف الاتحاد السوفياتي من أزمة 67 وحربها.
ومدعاة التوقف هو اعتقادي شبه الجازم بأن قدراً من التشوّش والضبابية في ذهن الرجل فعل فعله لينطق بما نطق... فما الذي قاله؟
1 ــ إنّ شمس بدران، وزير الحربيّة ومبعوث عبد الناصر، وصل موسكو لإجراء مباحثات مع القيادة السوفياتية في 20 أيّار. والأدقّ أن بعثته وصلت يوم 25 أيار، وضمّت إليه الفريق أوّل هلال هلال مساعد نائب القائد الأعلى وأحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية، فضلاً عن السفير مراد غالب.
2 ــ إنّ الوفد أتى برغبة من عبد الناصر في دعم السوفيات له لشنّ ضربة هجومية استباقية على إسرائيل قبل أن تسبق بضرب سوريا.
3 ــ إنّ الوفد، وفقط في اليوم الرابع، أعلن اقتناع عبد الناصر بعدم القيام بضربة كهذه مماشاة لتمنّع السوفيات عن دعمها، أي يوم 28 أيار. والقاطع أن مراجعة دقيقة لمسار أحداث تلك الأيام كفيلة بتوضيح الصورة وإزالة ما علق بها من شوائب:
1 ــ إن عبد الناصر وبعد إغلاقه خليج العقبة يوم 22 أيار، عقد اجتماعات ثلاثة لهيئة أركان الحرب أوّلها في 25 أيار وثانيها في 28 أيار، وثالثها في 2 حزيران.
2 ــ إن اجتماع 25 أيار الأول تزامن مع سفر بعثة شمس بدران إلى موسكو. يومها كان مطلب عبد الناصر الأساسي في هذا الاجتماع هو تأمين قطاع غزة وشرم الشيخ بما عناه من تعديل خطة قاهر للدفاع عن سيناء والمقرّة في كانون الأول 66.
والأكيد أن عبد الحكيم عامر عرض خطتين تعرّضيتين محدودتين: الأولى برية واسمها الكودي laquo;أسدraquo; وتهدف إلى الاستيلاء على إيلات، والثانية جوية واسمها الكودي laquo;فجرraquo; وتنحصر في قصف مطارات النقب وتدميرها.
انتهى الاجتماع إلى قرار بتجميد العمل بالخطتين حتى إشعار آخر... وبعد نيل إذن عبد الناصر شخصياً.
3 ــ في اليوم التالي ــ الجمعة 26 أيار ــ خرج الأستاذ هيكل بمقال لا يمكنه إلا أن يكون من وحي عبد الناصر، تبدّت فيه جليّة نيّة الامتناع عن الضربة الأولى، والاكتفاء بصدّ ضربة العدو إن أتت، ثم الردّ بضربة مضادة. إعلان كهذا ينبئ بأن اجتماع 25 أيار تمخض عن سياسة كهذه، مع الاحتفاظ باحتمال عمليات تكتيكية موضعية حسب التطورات.
4 ــ إذا كان ما يقصده أكوبوف هو أن بدران أراد تأييد السوفيات في دعم هاتين العمليتين، فهذا ممكن وربما كان أحد أسباب زيارته وفي ذلك التوقيت بالتحديد. أما حكاية هجوم مصري شامل على إسرائيل فغير واردة بالقطع.
5 ــ أما القول بأن عبد الناصر يريد استباق إسرائيل في ضربتها لسوريا فغير واقعي بالمرة. إذ إن ما جرى فعلاً بين 15 و22 أيار هو التالي: في ذلك الأسبوع تحول جهد العمل الإسرائيلي من الشمال إلى الجنوب، وهذا ما قصده عبد الناصر بالضبط... أي تخليص سوريا من همّ الغزو وتحويل أنظار العدو عنها جنوباً إلى الجبهة الرئيسية من الآن فصاعداً. إذاً، ليس هناك توقع لضربة في الشمال حتى يتم استباقها من الجنوب.
6 ــ ما أراده بدران فعلاً ــ فضلاً عن احتمال طلب تأييد فجر وأسد ــ هو التسريع في توريد صفقات سلاح معقودة سابقاً، والتوصل إلى صفقة سلاح جديدة تركز على الدفاع الجوي. ثم أراد معرفة موقف موسكو إذا شنّت إسرائيل هجومها الشامل على مصر، ناهيك عن استعراض الموقف الإقليمي، وتبادل المعلومات والتركيز على وضع واشنطن من القصة وتفاعلاتها.
7 ــ الحيوي في هذا السياق أن السفير ديمتري بوجداييف أيقظ عبد الناصر من نومه في الثالثة من فجر 27 أيار لينقل إليه رسالة عاجلة من القيادة السوفياتية محمّلة بمعلومات أميركية عن هجوم مصري ذاك الصباح على إسرائيل مع طلب سوفياتي بالتوثق والتوقف على الفور.
أكد عبد الناصر للسفــــــــــير أن شيئاًًَ من هذا لن يكون. اتصل بعبد الحكيم عامر فوجـــــــــده فعلاً في صدد الأمر بفجر وأسد ذلك اليـــــــــــوم، على رغم قرار اجتماع 25 أيار بأن الرئيس وحده صاحب القرار النهائي. أمر عبد الناصر عامر بإلغاء أوامره والانصياع لكلمته الأخيرة ففعل.
ماذا يعني ذلك؟... يعني أن التوقف عن هجومين محدودين تم فجر 27 أيار ــ اليوم الثالث للمباحثات لا اليوم الرابع ــ وفي القاهرة نفسها لا في موسكو.
8 ــ إن شمس بدران عاد من موسكو يوم 28 أيار ليذهب من فوره لحضور اجتماع هيئة أركان الحرب الثاني ذلك المساء.
9 ــ في المباحثات مع كوسيغن، كان واضحاً أن السوفيات راغبون في نزول عبد الناصر على درجات السلّم وسعداء بخطواته لتخفيف التوتر التي أبلغها ليوثانت عندما قابله يوم 23 أيار لبحث أزمة خليج العقبة، بل ومطالبون بالمزيد من نزع فتيل الأزمة المتصاعدة.
لم يكونوا سعداء بإغلاق الخليج في المقام الأول، وسعوا لنزع ألغام الإغلاق بعدما حدث. هم في المجمل أرادوا ردعاً لإسرائيل وحماية لسوريا وتفعيلاً لمصر، ولكن من دون الاقتراب من حافة الحرب. كانوا مقتنعين ــ كما قناعة عبد الناصر ــ أن جيشه قادر على خوض معركة دفاع معقولة في سيناء إن وصلت الأمور للحرب ــ وهو أسوأ الأحوال ــ ولم يكن في خاطرهم أن تتهدم العسكرية العربية بالدراماتيكية التي تجلّت عبر أيام ستة. لقد هزموا معنا وبنا في حزيران 67، ثم ضربوا بنا وعبرنا ما بين 72 ــ 81، بما كفل ــ إضافة إلى عوامل أخرى ــ انهدام بنيانهم في 90 ــ 91.
*كاتب عربي مقيم في الولايات المتّحدة الأميركية
التعليقات