رشيد الخيون
يُقال، والعهدة على الراوي وهو شعب العراق كافة، إن رجلاً جاء إلى العرضحالجي، أو العرض حال، ليكتب له عريضةً يشرح فيها مظلوميته، فأفاض الرجل بما لديه وكأنه يشكو وجعه لطبيب أو قاضي قضاة. ولما انتهى العرضحالجي من الكتابة، قرأها له والرجل يبكي ويقول: laquo;كل هذا الضيم بيَّ وأنا ما أدريraquo;؟ يتذكر العراقيون تلك الحكاية بكل وجدانيتها، وهم يعيشون المفارقة الكبرى: أن يظلموا ويذبحوا بخيرات بلادهم! ومن خفايا تلك المصيبة، على شاكلة ما أبكى صاحبنا في حضرة العرضحالجي، ما قاله وزير النفط السابق عصام الجلبي في ندوة بعَمان السنة الماضية، على هامش لقاء laquo;عراقيون أولاًraquo;: laquo;ما بين النعمة والنقمة نقطتان! أصبح النفط النعمة نقمةraquo;.
وأضاف الوزير: laquo;لو تغيرت السلطة بشكل هادئ، وينتج العراق ثلاثة ملايين برميل في اليوم، لا نمد أيدينا إلى 11 أو 15 مليون دولار من الدول المانحةraquo;. وما يزيد البكاء غضة، لا أحد يعلم أين صُرف ما مُنح من تلك المليارات؟ هذا، مع رأي الخبراء، ومنهم فاضل الجلبي، من أن نفط العراق من أفضل النفوط، وآباره من أسهل الآبار إنتاجاً، وأطولها مدىً. إلا أن الأخير يُحذر من مصير مأساوي لهذه الثروة الهائلة، فإذا ما لم تُستغل سيكون شأنها شأن الفحم الحجري، ذلك بفعل بدائل الطاقة.
كاد يصل إنتاج العراق النفطي بعد العام 1979 إلى خمسة ملايين برميل يومياً لولا الحرب مع إيران، ثم تآكلت النسبة وتردى الحال خلال التسعينيات. ومع ذلك كان الإنتاج، قُبيل السقوط، أكثر من مليوني برميل، إلا أنه تنازل إلى 900 ألف، وسُرقت المحطات النفطية عن بكرة أبيها. هذا ما أبكانا به وزير النفط السابق ثامر الغضبان. وقد تساءل الغضبان: laquo;هل يُعقل أن العراق يستورد منتجات نفطية؟raquo;، وله الحق بالقول: laquo;عندما نسأل سؤالا منطقيا في بيئة غير منطقية لا نصل إلى جوابraquo;. وما تُذرف له الدموع حقاً أن حوالى 85 مليون دولار هي مجموع خسائر العراق يومياً من عائده النفطي، ولكم قياس عظمة السرقات، التي لا تجد السلطة حلاً لها، بعد تأسيس شبكات منظمة من حرامية البيت والجار الجنب.
فكم يعبئ السارقون لحسابهم، وكم تخسر البلاد من أموال! وحسب رئيس الجهاز المركزي للإحصاء أن 31% من الأُسر العراقية تعيش تحت خط الفقر، ولكم تقدير نسبة الأُسر التي تعيش فوق الخط، أو أبعد منه بدرجة أو درجتين. ومن عجب قال رئيس الجهاز: laquo;إن الحروب والهجرة قللت من أزمة السكنraquo; (مجلة laquo;الحوارraquo;، نيسان 2007). وفي الكلام عودة غير مقصودة إلى ما يُنسب إلى الاقتصادي الإنكليزي روبرت مالثوس (ت 1834) من نظرية شرسة تتمنى الكوارث حلاً للأزمات السكانية، وقال أيضاً بتحديد النسل.
سألت الاقتصادي كاظم حبيب، ونحن نعاين الفتية في الطريق بين أربيل ودهوك وهم ينتشرون على الأرصفة من باعة البنزين القادم من إيران: كم تتوقع نسبة دخل الفرد العراقي الحقيقية، لا التي تُحسب بالإحصاءات، لو كانت لدينا دولة مثلما تمناها إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري)، لا يعتدي فيها الذئب على الحمل، وتستغل فيها الثروات بحكمة وضمير؟ قال: laquo;ليس أقل من 15 ألف دولار، ويتزايدraquo;. وأخذ يذكر تاريخ النسب: العام 1950 كانت 654 دولاراً، صعدت في 1960 إلى 1261 دولاراً. وفي 1979 ارتقت إلى أعلى نسبة 4219 دولاراً، لتهبط 1990عام إلى 868 دولاراً، حتى لامست خط البؤس في 1993 حيث بلغت 485 دولاراً، ثم أخذت عام 2006 بالصعود إلى 2900 دولار.
كان النفط نقمة لا نعمة لدى الأولين أيضاً، وهذا ابن سرين البصري (ت 110هـ) أو ما نُسب إليه، فسر رؤيا النفط في المنام: laquo;مال حرام، وقيل امرأة فاسدة، ومَنْ صب عليه نفطاً أصابه مكروه من جهة السلطانraquo; (تفسير الأحلام). وبعده فسرها الشيخ عبد الغني النابلسي (ت1731) بما هو أقرب للحالة: laquo;النفط شرور وأنكاد وحروبraquo; (تعطير الأنام). ولولا سوءة النفط ما خاضت دولة البعث الحروب الغبية. ومع العراك على منصب وزارة النفط اليوم، لكن بالأمس هجا أحدهم والي النفاطات، وهي فرق من فرق الجيش في العصر العباسي: laquo;دع الكبرَ واستبق التواضعَ إنه.. قبيح بوالي النفط أن يتكبرا.. لحفظِ عيونِ النفطِ أظهرتَ نخوةً.. فكيف به لو كان مسكاً وعنبراraquo; (المحاسن والمساوئ).
على أية حال، إن ثروة طائلة وخطيرة، تتأرجح بين النعمة والنقمة، مثل النفط لا يجب أن يَتسرع بتشريع قوانينها، وبرم اتفاقات حولها والبلاد تعيش حالة طوارئ قصوى، والقتل والفزع على أشدهما، والفساد بلغ ذروته، فلماذا الإصرار على زيادة الفواجع فواجع، والناس لم يتفقوا على خرقة العلم وشعار الدولة بعد، وخطوات المصالحة المرجوة إلى تدهور. هناك مجال للانتظار، فما يُشرع في ظل الأزمات قد يتم التراجع عنه، والآية تفسر الحال: laquo;ضعف الطالب والمطلوبraquo;! هذه نتفة يسيرة من ملف واحد هو laquo;القير البابليraquo; كما عُرف النفط قديماً، والبقية تأتي!
التعليقات