الرباط - عبد الصمد بن شريف


الملف الذي نشرته مؤخرا مجلة ldquo;الاكسبرسrdquo; الفرنسية، وكشفت فيه استنادا إلى مقال للمؤرخ والصحافي التشيكي، بيتر زيديك، أن المناضل اليساري المغربي، المهدي بن بركة، المختطف عام ،1965 كان يشتغل لمصلحة المخابرات التشيكوسلوفاكية، كان له وقع الصدمة على حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي يعتبر الكشف عن مصير بن بركة أحد التزاماته النضالية والحزبية، وعلى عائلة بن بركة، ومجمل مكونات اليسار المغربي، خاصة أن الأمر يتعلق برجل تجتمع في صورته الكاريزمية الأسطورة والحقيقة.

إضافة إلى كون نشر هذا الملف، يتزامن مع إعلان المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، عن تشكيل لجنة خاصة تتولى البحث عن حقيقة اغتيال بن بركة، وذلك تنفيذا لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وهذا ما يجعل بعض المراقبين

في المغرب يتساءلون عما إذا كانت هناك جهات تريد تحويل اتجاه مسار البحث عن جثة بن بركة، خاصة من الجانب الفرنسي المتورط في عملية اغتياله.
ويرى هؤلاء أن بن بركة إذا كان قبل مبدأ العمالة لأجهزة استخباراتية أجنبية، ألم يكن من الأولى أن يتعامل مع المخابرات السوفييتية ldquo;كي جي بيrdquo;؟
بيتر زيديك، صاحب هذه الاكتشافات حول بن بركة، هو صحافي ومؤرخ تشيكي يبلغ من العمر 36 عاما ويشتغل في يومية ldquo;بليدوفي نوفينيrdquo; في براغ. أهله اختصاصه في السياسة التشيكوسلوفاكية في إفريقيا الفرانكوفونية من سنة 1948-1968 لتأليف كتاب بهذا الخصوص سنة ،2006 كما نشر له العديد من التحقيقات، حول هذه الفترة في عدة مجلات فرنسية.

بيتر زيديك، الذي اعتاد الغوص في مثل هذه الملفات، يعتقد بأن ملف بن بركة هو ملف ldquo;استثنائيrdquo;. يقول إنه ليس من الغريب أن تستقطب المصالح الاستخباراتية عملاء لها، وقد وافق المعارض المغربي على التعاون عن اقتناع ولكن أيضا لأنه كان يحتاج للمساعدة ولاسيما من قبل السوفييت. ويزعم المؤرخ التشيكي أن صحة هذا الملف هي فوق مستوى الشكوك.

وكان أول ردود الفعل من قبل البشير بن بركة نجل المهدي المقيم في باريس، الذي اعتبر أن ما نشر في مجلة ldquo;الاكسبرس ldquo; يمس بذاكرة والده، نافيا أن يكون والده عميلا للمعسكر الشرقي أو الغربي، ومؤكدا في نفس الوقت أن والده كان يبحث عن الدعم للحركات التحررية الوطنية، ولذلك كانت له اتصالات بالعديد من الدول الشيوعية، مشيرا إلى أن وثائق هذا الأرشيف لا تعد دليلا وأن الأشخاص الذين عايشوا بن بركة في تلك الفترة يعرفون أن هذه الاتهامات عارية من الصحة.

كما دان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يعتبر بن بركة مؤسسه الفعلي في عام ،1959 ما وصفه بالحملة المسعورة التي تسعى إلى تحريف التاريخ وتزويره، وجدد مطالبته بالكشف عن الحقيقة كاملة في اختطاف المهدي بن بركة ومعرفة مصيره.

أما الكاتب الصحافي المغربي، عبد اللطيف جبرو، فقد رد على ما كشفت عنه ldquo;الاكسبرسrdquo; الفرنسية، وأعادت نشره الصحافة المغربية، قائلا ldquo;جاء اليوم إلى المشهد السياسي من يعتقدون أنه من السهل عليهم محو المهدي من الذاكرة، من خلال الإساءة إليه، والحديث عنه كجاسوس لحساب المخابرات التشيكو سلوفاكية ldquo;. وأضاف جبرو، الذي أصدر سلسلة من الكتب، عن شخصية المهدي بن بركة، أن الصحافيين المغربيين، أبو بكر الجامعي وعلي المرابط، سبقا هؤلاء عندما عملا على ترويج أكاذيب عن المهدي، بكونه كان عميلا للمخابرات ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وأوضح جبرو أن المهدي كان في استطاعته أن يصبح من كبار الأغنياء في المغرب غداة الاستقلال، لكنه اختار طريقا آخر لا علاقة له بالبحث عن الثروة والحصول على المال، ولو كان المهدي يلهث وراء المال، كأن يضطر إلى بيع نفسه لجهاز أو أجهزة استخباراتية أجنبية، لكان قد ترك لأبنائه ثروة كبيرة من الممتلكات والعقارات.

بالنسبة للصحافي والمؤرخ بيتر زيديك، فليس هناك من شك في أن الرمز ldquo;الثوريrdquo; للعالم الثالث كان عميلا للمعسكر الشرقي وكانت لديه ldquo;اتصالات سريةrdquo; بال STB، رمز أمن الدولة التشيكوسلوفاكية. وخلال هذه السنوات، كان الاسم الحركي لبن بركة هو ldquo;الشيخrdquo;، الذي تقول بشأنه التقارير إنه قدم معلومات مهمة لجهاز الاستخبارات التشيكي، ونظرا لأهميتها تم إرسالها إلى جهاز الاستخبارات السوفييتي ال ldquo;كي.جي.بيrdquo;. في هذا الملف، الذي يحمل رقم 43-802 والمقسم إلى خمسة أجزاء، هناك المئات من الوثائق والمذكرات والتقارير حول العديد من المواضيع. ويظهر من خلاله أن ldquo;الشيخrdquo; تلقى تدريبا في مجال ldquo;المواجهة السريةrdquo;. كما أن هذه الوثائق، التي رفعت عنها السرية، لا تعود لبن بركة نفسه وإنما للأشخاص الذين كان على علاقة بهم.

ورغم أنه تم التخلص من الملف المذكور الذي يصف الكيفية التي كان بواسطتها يتلقى بن بركة التعويضات، فإن بعض الوثائق الأخرى من الأرشيف تبين أن القيادي المغربي المعارض كان يحصل على مقابل للمعلومات التي يقدمها. هذه الوثائق تقدم بن بركة كعميل له ldquo;تأثير ونفوذrdquo;، نظرا للمهام التي كان مكلفا بها ولاسيما حث القادة في منطقة الشرق الأوسط على الانضواء تحت لواء موسكو، وليس بكين.

ورغم كل هذا الكم من الوثائق والأخبار عن بن بركة، فإن هذا التعاون الاستخباراتي مع تشيكوسلوفاكيا لم يثر الشبهات خاصة أن الإحدى عشرة زيارة التي قام بها إلى براغ لم تكن ذات أهمية تذكر.
وحسب بيتر زيديك، تعود فصول هذه القصة إلى منتصف شهر مارس/ آذار 1960 في باريس في مقهى ومطعم ldquo;لوفوكيتسrdquo; في جادة ldquo;الشانزيليزيهrdquo; الشهيرة. في هذا المقهى، كان يجلس الضابط زدينيك ميك، عميل استخبارات تشيكوسلوفاكي يتخفى خلف ستار دبلوماسي من خلال عمله كسكرتير ثان لسفارة بلاده، مع أحد عملائه الفرنسيين الذي كان يحمل اسم ldquo;كوكولrdquo;. ويبدو أن ldquo;كوكولrdquo; كانت لديه عدة اتصالات بالمغاربة. وفي هذه الجلسة، قدم هذا الرجل شخصاً يدعى الكنفاوي، مكلفاً بمهمة في سفارة المغرب في فرنسا، إلى الدبلوماسي التشيكي المزيف. الكنفاوي لم يكن يدري أن زدينيك ميك، واسمه الحركي ldquo;موتلrdquo;، هو عميل للمعسكر الشرقي. وفي الطاولة المجاورة للرجال الثلاثة، كان يجلس هناك مغربي آخر يدعى المهدي بن بركة (40 عاما) الزعيم المنفي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أسسه سنة 1959.

استغل الدبلوماسي التشيكوسلوفاكي الفرصة للتعرف إلى بن بركة ودعاه برفقة الكنفاوي إلى عشاء تنظمه السفارة التشيكية. وفي مساء 28 مارس/ آذار ،1960 اضطر الكنفاوي إلى التأخر عن الموعد بسبب حفل أقيم على شرف وفد مالي، ووصل متأخرا إلى دعوة العشاء بعد ساعة ونصف الساعة عن الموعد المحدد. بن بركة، المعروف بمواعيده الدقيقة، وصل في الموعد، وأثناء انتظاره لمواطنه تبادل حديثا مطولا وخاصا مع زدينيك ميك من دون أن يشك بأن هذا الرجل وعمره تسعة وعشرون عاما هو ضابط في ال STB، (جهاز أمن الدولة التشيكوسلوفاكي).
بعد هذا الموعد على العشاء، فتحت المصالح الاستخباراتية التشيكوسلوفاكية في قسم الاستخبارات الخارجية ملفا تحت رقم 43-802 باسم بن بركة بناء على تقرير كتبه الضابط زدينيك ميك عما جرى بينه وبين بن بركة: ldquo;لقد استطعنا تحليل الوضع الحالي في المغربrdquo;.

إن مؤسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لا يستطيع العودة إلى المغرب مخافة اعتقاله. بن بركة كان يرى أن الحل الوحيد أمام بلاده هو الانضمام إلى مصاف البلدان الاشتراكية. ولتحقيق هذا الانضمام يجب استيفاء الشرط الأول الذي يتمثل في تحقيق اتحاد بين جميع القوى الحية في البلاد في تنظيم سياسي موحد. لهذا يجب مناقشة الأمر مع علي يعتة، الأمين العام للحزب الشيوعي المغربي، من أجل الحصول على موافقة الحزب. علاوة على ذلك، أثار زدينيك ميك نقطة اعتبرت إشارة إيجابية في عيون مسؤولي الاستخبارات التشيكوسلوفاكية وتتعلق ببحث بن بركة عن ربط اتصالات دولية بالمسؤولين السوفييت ولاسيما المقربين من جوروتشيف، وخلال محادثات العشاء بين بن بركة وزدينيك ميك تمت دعوة بن بركة إلى زيارة تشيكوسلوفاكيا.

ويكشف بيتر زيديك أنه في إبريل/ نيسان، وأثناء حضوره لمؤتمر منظمة وحدة شعوب إفريقيا وآسيا في كوناكري في غينيا، التقى بن بركة السفير التشيكي، فلاديمير كناب، الذي أخبره بأن عليه التوجه إلى يوغسلافيا وفرنسا ثم تشيكوسلوفاكيا. هذه الأخبار، أثارت تخوف الرئيس التشيكوسلوفاكي، أنطونين نوفوتني. فدعوة بن بركة، بشكل رسمي، ستتسبب في مشاكل مع المغرب، الذي كان يعد الشريك الاقتصادي الثاني لتشيكوسلوفاكيا بعد مصر.
كما أنه يجب أيضاً عدم التقليل من شأن بن بركة، النجم الصاعد في صفوف اليسار على المستوى الدولي، ستتم دعوته بشكل غير مباشر، عن طريق توجيه دعوة له من طرف وسيط من النقابات المركزية.
بعد ذلك، توطدت علاقة بن بركة بزدينيك ميك وأصبح دائما يحادثه ويدعوه إلى السينما أو المسرح. وكانا يلتقيان غالبا في مقهى ldquo;ليبrdquo; الذي اختطف منه، وذات مرة شاهدا معا الفيلم السوفييتي ldquo;نزهة الجنديrdquo; للمخرج كريكوري تشوكراي. زدينيك ميك كتب في تقاريره قائلا: ldquo;كان جزء كبير من أحاديثنا يدور حول المسائل النظرية للفلسفة الماركسية والاشتراكية العلميةrdquo;، حسب ما جاء في الملف.

في أواخر سنة ،1960 أعلن بن بركة عن رغبته في زيارة تشيكوسلوفاكيا معبرا عن أمله في مقابلة مسؤولين سوفييت وازنين. وفي 12 مارس/ آذار ،1961 طلب بن بركة من صديقه التشيكوسلوفاكي مبلغ 10000 فرنك من أجل تأمين الدعم ل ldquo;فرانس أوبسرفاتورrdquo;. لقد أراد بن بركة أن تستمر هذه الأسبوعية اليسارية، المعروفة بمواقفها الانتقادية، تجاه الحسن الثاني، خليفة محمد الخامس الذي توفي يوم 26 فبراير/ شباط 1961. لقد كان يؤمن بأن مثل هذه الأساليب قد يكون لديها بعض التأثير. لكن هل استمر بن بركة في دعم هذه الجريدة؟ ليس هناك من دليل على ذلك في أرشيف الاستخبارات التشيكوسلوفاكية، ولكن الحقيقة الأكيدة هي أن هذا المعارض عرف، منذ ذلك الحين، الوظيفة الحقيقية لزدينيك ميك.

وكتب زدينيك ميك إلى رؤسائه أنه لا يؤيد توظيف ldquo;الشيخrdquo;، الاسم الحركي الذي أطلقه زدينيك على بن بركة، بشكل رسمي ضمن مصالح الاستخبارات التشيكوسلوفاكية. يقول زدينيك: ldquo;الشيخ لديه طموحات كبيرة. إنه يريد أن يلعب الدور الأول في مستقبل الدولة المغربية. ولهذا السبب، يجدر التعامل معه فقط على أساس تعاون سياسيrdquo;.

في يوم 12 سبتمبر/ أيلول ،1961 وصل بن بركة إلى دولني دفوريست على الحدود النمساوية التشيكوسلوفاكية على متن سيارة. واستقبله زدينيك ميك بنفسه. وهنا ابتدأت رحلة الإغراء. فقد حاول منظمو الرحلة أن يعطوا لبن بركة صورة عن النجاح الذي حققته الاشتراكية والإرث الثقافي للبلاد. إلى جانب ذلك، تم اصطحابه في زيارة لبلدة أورليك بسدها الكبير وقصرها الشهير. وفي المساء، دعي إلى ملهى ليلي في براغ ثم اختتم سهرته في بار عصري. وفي الأيام التالية، قام بزيارات متعددة شملت تعاونية فلاحية ومصنعاً وعقد لقاءات مع طلبة ونقابيين ومسؤولين.

كتب زدينيك ميك في مذكراته: ldquo;خلال عشاء في مطعم ميسين، تعرف الشيخ إلى امرأة مجهولة ذات توجه ثوري ونشأت بينهما علاقة حميمة. وقال لنا الشيخ إنها امرأة مطلقة ولديها طفل في الخامسة من عمره، وهي من أصل روسيrdquo;.
بن بركة أسر لصديقه بأنه في فرنسا يستخدم الإغراء ك ldquo;وسيلة فعالة للحصول على المعلوماتrdquo;. وهناك قصة في هذا الصدد تضمنها هذا الأرشيف. يقول زدينيك ميك: ldquo;قام أخو بن بركة بتعريفه بإحدى عشيقاته التي تعمل ككاتبة في ديوان وزير الدفاع، بيير ميسمر، في باريس. وقام الشيخ بدعوتها إلى جنيف وأعطاها بعض الأموال وكرس نفسه لها -ولو أنها لم تكن جميلة- من أجل كسب رضاها ومقابل أن تمده بمعلومات أو وثائق تخص الوزارةrdquo;. ويضيف زدينيك ميك أن علاقته توطدت ببن بركة إلى درجة أنه كان يتحدث معه بشكل صريح حول المسائل الاستخباراتية.

في خريف ،1961 قام جهاز ال STB بخطوة مهمة تمثلت في تقديم تعويض مادي لبن بركة. وكان بن بركة يتلقى 1500 فرنك شهريا مقابل تقديم وثائق هي عبارة عن بيانات من داخل مصلحة التوثيق ومكافحة التجسس الفرنسية والتي قال إنه تسلمها من عميل فرنسي التقاه عن طريق المؤرخ والصحافي روجيه باري المتخصص في شؤون المغرب في أسبوعية ldquo;فرانس أوبسرفاتورrdquo;. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني، قام جهاز ال STB كذلك بتمويل سفره إلى غينيا (3500 فرنك).

وكانت كل المعلومات التي يرسلها ldquo;الشيخrdquo; تقيم من طرف مسؤولي الاستخبارات التشيكوسلوفاك على أنها مهمة ويتم تحويلها إلى جهاز الاستخبارات السوفييتي الrdquo;كي.جي.بيrdquo;.

وفي 15 مايو/ أيار ،1962 توجه بن بركة إلى المغرب، حيث أصبحت السلطة مهادنة بشكل مفاجئ تجاهه. وخلال هذه الفترة، أوقف تعاونه مع الSTB كإجراء احتياطي. إلا أنه في فبراير/ شباط ،1963 رجع ldquo;الشيخrdquo; إلى تشيكوسلوفاكيا. ورغم أنه لم يُمض سوى يومين في براغ فإنه تم توظيفه خلال هذه المدة القصيرة بشكل رسمي كعميل للمعسكر الشرقي بعد تقييم لمساره من طرف مسؤولي ال STB. في هذه الفترة، تم تغيير الوسيط من زدينيك إلى ضابط آخر يدعى كارل سيرماك واسمه الحركي سيربينكا وينتمي للمكتب المركزي الاستخباراتي في براغ. وبعد عودته للمغرب، لاحظ بن بركة أنه مراقب وكان يخشى على حياته، خاصة بعد حادث سيارة اشتبه في أنه كان مدبرا، وكان مقتنعا باستحالة التوصل إلى اتفاق مع الدولة المغربية، لذلك عاد إلى منفاه من جديد يوم 23 يونيو/ حزيران ،1963 ولكن بصفة نهائية هذه المرة.

هذه الوثائق كشفت أيضا العديد من الأشياء عن أجواء تلك الفترة التي كان يسودها عدم الثقة والمكائد. هذه الوثائق أماطت اللثام كذلك عن تورط عشرات الأشخاص، وخاصة على مستوى الصحافيين الفرنسيين، حيث كان البعض منهم يحمل أسماء حركية، وكانوا يتعاملون مع الاستخبارات في المعسكرين الشرقي والغربي.

جاب الرحالة بن بركة تقريبا جميع بلدان الكرة الأرضية، وتركزت رحلاته بشكل رئيسي على تشيكوسلوفاكيا في ثلاث زيارات مهمة إلى براغ التي كانت في أغلب الأحيان، تمثل محطة عبوره للدول الشيوعية. وعندما كان يحط الرحال في براغ، كان من عادته أن يحجز في فنادق العاصمة الراقية: مثل يالطا، أنترناسيونال، باريس. وكانت ال STB تستغل هذه العادة بالاستعداد مسبقا لتركيب أجهزة للتنصت على مكالماته الهاتفية.

وفي يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول ،1963 رفع رئيس الاستخبارات الخارجية جوزيف هوسكا مذكرة إلى وزير الداخلية، ليبومير ستروكال، امتدح فيها التعاون مع ldquo;الشيخrdquo; ووصفه بالعنصر الجدي وأنه كان يمدهم بمعلومات ووثائق مهمة. كما أطلع هوسكا وزير الداخلية من خلال هذه المذكرة على أنه سيتم إشراك ضابط يدعى الرفيق لينسكي، عميل ال STB في الجزائر، في التعامل مع ldquo;الشيخrdquo;.
وخلال المدة التي تعامل فيها ldquo;الشيخrdquo; مع الاستخبارات التشيكوسلوفاكية، تلقى دروسا في حل الشفرات وتلقي التعليمات بدون إيقاظ شكوك أولئك الذين يتنصتون على مكالماته. فمثلا عندما يطلب منه أن ldquo;يقابل صحافيا في زيوريخrdquo; فإن ذلك يعني أن عليه التوجه بسرعة إلى براغ، وإذا كانت الجملة تقول إن ldquo;صحافيا يريد مقابلتك في جنيفrdquo; فهذا يعني أنه يجب عليه التوجه إلى الجزائر!

في يوم 19 أغسطس/ آب ،1964 عاد بن بركة إلى تشيكوسلوفاكيا، ولكن هذه المرة بجواز سفر جزائري خاص يحمل رقم 798 وباسم الزايدي عبد الكريم.

بن بركة لم يكن هذه المرة وحده، بل كان برفقة زوجته وأطفاله الأربعة! هذه الزيارة العائلية أثارت غضب قيادة ال STB بسبب عدم إشعارها بذلك! ومع ذلك قبلت ال STB بتحمل مصاريف إقامته الطويلة مع عائلته (حوالي ثلاثة أسابيع). وهنا، أخبره مسؤولون من ال STB بأنه لم يعد جديا في تعامله معهم بسبب عدم انتظامه في الاتصال بهم إلى جانب إمدادهم بمعلومات ليست ذات أهمية، والنتيجة هي قرار بتحديد تعويضه المادي بناء على تقييم عمله.

تكشف هذه الوثائق أيضا أن بن بركة تلقى، نزولا عند طلبه، تكوينا في تقنيات ldquo;التآمرrdquo;: اللغات المشفرة، الاتصال عن طريق الراديو، فن التحايل... واحتضنت العاصمة براغ مدة التكوين التي استمرت من 9 إلى 17 مارس/ آذار 1965 في شقة ldquo;عاديةrdquo; تابعة ل STB. وكانت آخر زيارة له إلى تشيكوسلوفاكيا في أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 1965 حين كان عائدا من كوبا.

وكانت الزيارة هذه المرة بشكل رسمي تقريبا، حيث عقد ندوة صحافية. وخلال نفس الزيارة طلب من سيربينكا إمداده بمسدس من عيار 65.7 ملمتر لأنه كان يشعر بتهديد كبير محدق بحياته، وتعهد سيربينكا بمنحه المسدس في زيارته القادمة، لكن القدر لم يمهل المعارض المغربي القيام بزيارة أخرى، ففي يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول من نفس السنة، تم اختطافه في الحي اللاتيني في باريس أمام مقهى ldquo;ليبrdquo;، وهو نفس المقهى الذي التقى فيه لأول مرة مع زدينيك ميك!

بعد ldquo;حادثrdquo; الاختطاف، فتحت ال STB ملفا فرعيا تحت رقم 100-43-،802 وكان الهدف من ذلك هو تحقيق ربح سياسي على الساحة الدولية.
ولهذا السبب، أطلقت ال STB حملة تضليلية أطلق عليها ldquo;انطلاقrdquo;. وقد حددت مذكرة صادرة في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 1965 الأهداف المتوخاة من هذه الحملة، التي وظف فيها العديد من المراسلين والصحافيين، في:

- توجيه الأنظار باتجاه الحكومة الأمريكية والسي.آي.إيه للاعتقاد بأنهما وراء هذا الاختطاف.

- التشهير بالملك الحسن الثاني، ووزير الداخلية الجنرال أوفقير، ومدير الأمن المغربي الكولونيل الدليمي وكوادر النظام، وترك الانطباع بأن هؤلاء الأشخاص هم ناشطون إمبرياليون أو عملاء وجواسيس أمريكيون ضد زعماء البلدان الإفريقية والعربية؟

- إقحام الشرطة والحكومة الفرنسيتين ولاسيما شارل ديغول شخصيا.

طبعا، هناك بعض الحقيقة في هذه التصريحات، وخاصة تورط بعض المغاربة ورجال شرطة فرنسيين، لكن هدف ال STB كان هو استغلال هذه الفضيحة بأكبر قدر ممكن على الساحة الدولية.
وتم إقفال هذا الملف الفرعي من دون أن يعرف أصدقاء بن بركة التشيك ماذا حصل له، ودفن سر بن بركة مع الاستخبارات التشيكوسلوفاكية ولم يتم الاطلاع على هذا الملف سوى عامي 1972 و1983.

قضية غامضة وبذيئة

وتعليقا على هذه السيناريوهات التي أوردها بيتر زيديك، والتي تثير العديد من التساؤلات، يرى الكاتب الصحافي، عبد العزيز كوكاس، أن ما نشرته ldquo;الاكسبرسrdquo;، يبخل علينا بالتفاصيل، متسائلا، هل يمكن أن يكون المهدي بن بركة، بعيدا عن فرضية العمالة للاستخبارات الأجنبية، موردا في هذا السياق مقولة لعالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، ldquo;إن من يتعاطى السياسة، ويقبل باستعمال وسائل السلطة والعنف، إنما يتحالف مع الشيطانrdquo;، ويعتبر كوكاس بهذا المعنى، أن الأهداف النبيلة في السياسة لا تقودها وسائل مماثلة لها في النبل.

فالمهدي بن بركة كان يحارب نظاما، وكان يتحرك مثل دبابة بين القارات والدول، بنى حزبا ونقابة، وكان يحاول أن يحكم بلدا، كيف إذاً، لم يستغل تناقضات الأنظمة، وأجهزتها، لخدمة ما يعتبره نبيلا. مضيفا، أنه يجب تخليص صورة المهدي بن بركة، من إطار المقدس والأسطرة، فالرجل كان ملغزا، لكنه لا يعلو على لغز مرحلة بكاملها.

وشدد عبد العزيز كوكاس على أنه نخشى مع ثقافة تسويد الأبيض أن نعرض كل رموزنا التاريخية، في سوق النخاسة، ألم نحول ملكا رآه المغاربة في القمر، إلى بائع للوطن؟ ألم يتهم علال الفاسي لكونه متآمرا على العرش؟ والفقيه محمد البصري الذي صدر في حقه أكثر من حكم إعدام، ألم يتهم بأنه كان يبيع ويشتري في نبل القضية، بالحقائب والممتلكات، والتي لم تجد زوجته بعد رحيله، دليلا ولا طريقا إليها؟

وخلص كوكاس إلى القول، إن المهدي بن بركة، وشم على ذاكرة معرضة للنزيف، لأنه أدرك السياسة، كحيازة للسلطة لتفعيل المبادئ، كان ملكيا حتى النخاع، وجمهوريا في بيت الملك، لكن لا أحد يستطيع أن ينزع منه، ثوب الوطنية، إذ يكفي انه قدم نفسه ضحية للحظة اصطدام التاريخ، في منعطف الأزمنة، ولعله بسبب موته، أو احتفاء بجنازته الغائبة، تعلم الراحل الحسن الثاني أنه يجب عدم تخطي الخط الأحمر، مع الحركة الوطنية.

أما عبد الحميد جماهري سكرتير تحرير جريدة ldquo;الاتحاد الاشتراكيrdquo;، فقد علق على ملف ldquo;الاكسبرسrdquo; قائلا: إنه للمرة الألف، تنبت قضية من داخل ملف المهدي بن بركة، وتخرج رواية من روايات الجيب السوداء، وتظل القضية الاساسية الرئيسية: من قتل المهدي بن بركة ؟ مضيفا أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تنسب فيها للمهدي بن بركة، الذي اختطف واغتيل سنة ،1965 انتسابات من هذا النوع، ولا المرة الأولى التي يحشر فيها اسمه في قضية غامضة وبذيئة ومتسخة من هذا النوع، فقد وجدوا الأجوبة لألف سؤال مفترض ولألف زاوية مفترضة، لكن السؤال الأول، العادي البسيط والبديهي: من قتل بن بركة وأين توجد جثته، ظل سؤالا عالقا.

هناك أسئلة من النوع المباشر التي تطرح على كتاب الجيب، والمهتمين بسيرة المخابرات في العالم: كيف يعقل أن يكون زعيم سياسي يلتقي كبار الدولة ldquo;مخبراrdquo; لدى مخبر في قنصلية تبعد عن بلاده آلاف الكيلومترات؟ فمن غرابة كل الخفايا التي وردت أن المهدي بن بركة، الذي كان يجالس رؤساء الدول، من ماوتسي تونغ الى تيتو، ومن نهرو الى عبد الناصر، يصبح في صفحات كتاب السيرة السوداء، مجرد ldquo;متعاونrdquo; مع أبسط عميل مخابرات، لنا أن نتصور المشهد كالتالي: زعيم يساري من حجم المهدي بن بركة، يقطع آلاف الكيلومترات من موسكو الى القاهرة ومن نيودلهي الى هافانا، لكي يحارب الاستعمار وأذنابه، ويقنع القادة في الصين بقبول الجلوس مع القادة في الاتحاد السوفييتي من أجل أن تنجح منظمة القارات الثلاث، يترك كل هؤلاء القادة مجتمعين لكي يتوجه الى ldquo;موظفrdquo; نكرة يقدم له الأخبار، التي ناقشها مع رؤساء الدول! ليست هذه المفارقة الوحيدة التي تأتينا من دهاليز السر والسرية في مختبرات المخابرات، وليس منتظرا منها أن تقدم بورتريها جميلا لقيادي معارض، وُجدت أصلا لكي تحارب أمثاله، ويضيف جماهري،أن المهدي المختطف والمقتول لا يجد جوابا بسيطا وعاديا ومفهوما: من قتلني وأين جثتي؟ لقد جعلوا له ألف وجه، ولم يضعوا وجها واحدا لقاتله ووضعوا له ألف جسد، ولم يحددوا جثته ووضعوا له ألف ملمح، ولم يضعوا لقاتله أنفا وعينين ولسانا وشفتين.

ويرى جماهري أن هناك سعياً حثيثاً لكي يُقتل المهدي مرة أخرى، وللمرة الألف، ولكي تموت الأسطورة، لمن يريد فعلا أن تنتهي ldquo;الأسطورةrdquo;، ليس هناك سوى حل واحد: هو الحقيقة! فليقولوا الحقيقة وبعدها ليفعلوا ما بدا لهم بالاسم والجسم.