خالد الدخيل

تعاني منطقة الخليج العربي حالة عدم استقرار سياسي منذ الثورة الإيرانية عام 1979. بعد الثورة اندلعت الحرب العراقية- الإيرانية، وهي حرب استمرت لثماني سنوات. بعد انتهاء هذه الحرب بأقل من سنتين قام العراق بغزو واحتلال الكويت عام 1990. فجَّر هذا الحدث الأوضاع في الخليج، واستمرت تداعياته تقود من حرب إلى أخرى. حرب تحرير الكويت، ثم الحروب الأصغر أثناء فترة الحصار المضروب حول العراق بعد خروجه من الكويت، وأخيراً الغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003. حالياً هناك حديث لا يتوقف عن احتمال ضربة عسكرية أميركية ضد إيران بسبب برنامجها النووي، والانعكاسات الخطيرة لمثل هذه الضربة على أمن المنطقة واستقرارها. لا يعني ذلك بالضرورة أن قيام الثورة كان السبب المباشر في كل ما حصل، وبالتالي كان حدثاً سلبياً بحد ذاته. لكنه يعني أولاً أن تاريخ قيام الثورة، وسقوط نظام الشاه، كان مفصلياً في تاريخ المنطقة، ويعني ثانياً، وأكثر التصاقاً بموضوع هذا المقال، أن قيام الثورة الإيرانية أحدث تغيراً كبيراً في معادلة توازنات القوة في منطقة هي من أكثر المناطق في العالم أهمية وحساسية. لكن للحقيقة لم يكن هذا التغير الذي أحدثته الثورة في معادلة توازنات القوة الإقليمية العامل الوحيد، وربما لم يكن العامل الأهم الذي ساعد على تعمق حالة عدم الاستقرار بسبب انتشار ظاهرة الحروب الإقليمية، ومن ثم التهديد المستمر لأمن المنطقة. المسؤول الأول عن ذلك كان ولا يزال الاختلال المزمن لمعادلة توازنات القوة في منطقة الخليج العربي منذ ما قبل قيام الثورة وحتى الآن.

ما قامت به الثورة الإيرانية أنها أخرجت إيران كطرف أساسي في معادلة توازنات القوة في المنطقة من علاقة التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، وجعلت من إيران دولة تسعى لأن تكون قوة إقليمية كبيرة، ربما هدفها الأخير أن تصبح دولة مهيمنة. ليس مهماً في سياق حديثنا هنا تناول العوامل والمحفزات الإقليمية والدولية التي تشجع إيران على أن تأخذ في سياساتها هذا المنحى. ما يهمنا هو التركيز على ثلاث نقاط ذات صلة مباشرة ومهمة بموضوعنا: الأولى أن إيران حافظت على إصرارها على أن تكون طرفاً أساسياً وفاعلاً في معادلة توازنات القوة سواء في عهد الشاه أو في عهد الجمهورية الإسلامية. الثانية أن الولايات المتحدة أصرت على أن تقتصر أطراف هذه المعادلة عليها هي (بعد خروج بريطانيا عام 1971)، وإيران والعراق، وبالتالي أن تبقى دول مجلس التعاون، بما فيها السعودية، خارج هذه المعادلة. الثالثة، وهذا أكثر ما يهمنا هنا، أنه نتيجة لهذه الترتيبات، ونتيجة للإصرار عليها بقيت معادلة توازنات القوة في المنطقة في حالة اختلال مزمن، وبالتالي بقي الاستقرار السياسي فيها مهدداً على الدوام. والمصدر الرئيسي لهذا الاختلال أمران: الأول والأهم أن السعودية، وهي الدولة الثالثة الأكبر في المنطقة (مع العراق وإيران)، اختارت ألا تكون طرفاً مباشراً وفاعلاً في توازنات القوى الإقليمية، وإنما تركت ذلك للدور الأمني الأميركي. المصدر الثاني، هو أن هذا الدور الأمني الأميركي يفتقر إلى أي تعاطف شعبي لأسباب عدة ليس هنا مجال التفصيل فيها.

إلى جانب ذلك أن الدور الأميركي في الخليج مرتبط باستراتيجية الدولة الأعظم في العالم، وهي استراتيجية معنية بالمصالح الأميركية في كل مناطق العالم، ولهذا تعقيداته وأثمانه التي لا يمكن دائماً السيطرة عليها. نتيجة لهذه الترتيبات، وللحروب والتطورات التي أفرزتها، تجد السعودية نفسها ومعها دول مجلس التعاون الأخرى، محشورة بين الطرفين الأقوى لمعادلة توازنات القوة في المنطقة، وهما إيران والولايات المتحدة، وذلك بعد أن أخرج الاحتلال الأميركي العراق من هذه المعادلة. بعبارة أخرى، الدول العربية في الخليج العربي تقع الآن خارج معادلة توازنات القوة، وهي المعادلة الأساس لأية ترتيبات أمنية.

السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة: لماذا اختارت السعودية ودول مجلس التعاون ألا تكون مع إيران والعراق الطرف الثالث والطبيعي في التوازنات الإقليمية التي تحكم الوضع الأمني للمنطقة؟ هناك عوامل عدة يمكن الحديث عنها كأسباب تقف وراء مثل هذا الخيار الاستراتيجي. لكن ربما أن العامل الأهم هنا هو الموقف من المؤسسة العسكرية. فهذه المؤسسة هي التي تتولى الأمن القومي للدولة، وبالتالي هي التي تمثل رمز قوة الدولة، والمنوط بها دور تمثيل الدولة في التوازنات الإقليمية. من أجل أن تقوم هذه المؤسسة بدورها هذا يتطلب نموها، وتعزيز قدراتها العسكرية والبشرية بما يتناسب مع حجم دورها، وبشكل خاص مع حجم الدولة وأهميتها ومكانتها الإقليمية. من هذه الزاوية يمكن القول إن حجم المؤسسة العسكرية وقدراتها في السعودية مثلاً لا يتناسب تماماً مع حجمها الجغرافي والسكاني والاقتصادي، ولا مع موقعها وأهميتها عربياً وإسلامياً ودولياً. هناك فيما يبدو خوف من أن نمو المؤسسة العسكرية قد يرتد سلباً على الدولة، لأنه قد يؤدي إلى نمو دور وثقل هذه المؤسسة داخل الدولة، بما قد يولِّد داخل المؤسسة العسكرية طموحات سياسية تتجاوز كثيراً المسؤوليات الأمنية المنوطة بها، ومن ثم قد يؤدي إلى الانقلاب على الدولة نفسها.

وهذا في واقع الأمر خوف مشروع، وهو امتداد لموقف عربي من المؤسسة العسكرية، وما انتهت إليه في كثير من الدول العربية. فالتجارب السياسية العربية طوال الفترة الممتدة من خمسينات حتى أوائل سبعينات القرن الماضي شهدت تفشي ظاهرة انقلاب المؤسسات العسكرية، وتحول كثير من الدول العربية إلى أنظمة عسكرية تحكمها ديكتاتوريات مستبدة، وأحياناً مغامرة. وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو النمو الكبير للمؤسسة العسكرية من ناحية، يقابله ضعف وترهُّل المؤسسة السياسية المدنية للدولة، من ناحية أخرى.

وقد أدى ذلك في ظروف الحرب الباردة، وتحديداً ظروف الصراع العربي- الإسرائيلي آنذاك، إلى تآكل شرعية الدولة، بما في ذلك الشرعية التاريخية، وشرعية الإنجاز. لكن في ظني أن الوضع في دول الخليج العربي، وخاصة في العقود الأخيرة يمثل تجربة سياسية مختلفة، وبالتالي يتطلب موقفاً مختلفاً في هذه الحالة. فهذه الدول تتمتع بشرعية تفتقدها كثير من الدول العربية. فمن الناحية التاريخية هناك درجة واضحة من الانسجام بين الأنظمة السياسية والمجتمعات التي تحكمها. ومن الناحية الاقتصادية، وبسبب الطفرات المالية المتتالية في هذه الدول، تحققت إنجازات عدة.

ولعل الأهم في سياق حديثنا هنا أنه في هذه الدول تم ترسيخ تقليد حميد، وهو تقليد الفصل بين دور المؤسسة العسكرية والعملية السياسية، بحيث بقي هذا الدور محصوراً في المجال الأمني للدولة. وهو تقليد ينبغي أن يتم دعمه من خلال مأسسته دستورياً، ومن خلال تحويله إلى جزء من منظومة القيم الاجتماعية والسياسية للدولة. من الممكن تحقيق ذلك من خلال قنوات عدة، ومن أهمها الدستور، والمناهج التربوية في التعليم العام والجامعي، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، وتحويل مجالس الشورى إلى سلطات تشريعية حقيقية ومستقلة، وتعميق ثقافة المشاركة السياسية التي تستند إلى احترام حق الحرية، حرية الرأي وحرية التعبير. عندما تنظر إلى التجارب السياسية العربية السابقة تجد أنها كانت تفتقر إلى أي من هذه الخصائص، الأمر الذي ترك الساحة مفتوحة للتداخل بين العسكري والسياسي، وأعطى مشروعية تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية، تدخل كانت نتائجه تدميرية. بناء على ذلك، يجب على دول الخليج أن تأخذ العبرة من تلك التجارب الفاشلة، لا أن تجعل منها قيداً على حرية حركتها، وعلى خياراتها الاستراتيجية فيما يتعلق بأمنها الإقليمي. تحجيم المؤسسة العسكرية، أضعف الدور الأمني للسعودية ودول الخليج في المنطقة، وجعلها تحت رحمة توازنات إقليمية ودولية لا تملك من أمرها الكثير. ينبغي الانتباه هنا إلى أن موضوع المؤسسة العسكرية يقع ضمن حدود سيطرة الدولة، بكل سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومن ثم فالخيارات حيالها متعددة. لكن التوازنات الإقليمية تقع خارج حدود تلك السيطرة، الأمر الذي كثيراً ما يفرض مجاراة أطراف تلك التوازنات تفادياً لتهديداتها ومخاطرها. وتجربة غزو الكويت، والتداعيات الخطيرة لذلك، وهي تداعيات لم تتوقف حتى الآن، خير شاهد على ذلك. كم كلف ذلك السعودية ودول الخليج مالياً وسياسياً؟