بهجت قرني

يميل كثير من الكتّاب -وأنا منهم- إلى تجنب النواحي الشخصية والتركيز على الجوانب الموضوعية في مقالاتهم، وأعتقد أن هذا المبدأ قاعدة مهمة من قواعد الحرفية، كما أن الكتابة عن الجوانب الموضوعية المجردة أسهل بكثير من الغوص في أعماق النفس ومحاولة إخراج المكنون ولكن بصورة واضحة وبناءة وقد تكلم quot;فرويدquot; وغيره من علماء النفس عن مثل هذه الصعوبة في إخراج هذا المكنون، ولكني أعتقد أيضاً أن مواجهة هذه المهمة الصعبة لها ما يبررها إذا استطاع الكاتب أن يرتقي بمأساته أو تجربته الشخصية ليضعها في إطار أعم أو تجربة أشمل تفيد الآخرين.
باختصار شديد، فقدت منذ أحد عشر يوماً في حادث أليم، ابنتي ذات الـ26 ربيعاً، كانت فانيسا-شهيرة، بريطانية الأصل، كندية المولد، مصرية الهوى وعربية الهوية، انتقلت من العالم الغربي إلى هنا لتتعلم لغتنا وتتبنى قضايانا وتعمل من أجل دفع قضية التنمية المستدامة في منطقتنا. كانت فانيسا -ككثير من طلبتي الذين اتبعوا نفس المسيرة- مصدر إعجابي، لأنهم قرروا، بمحض اختيارهم، ترك الحياة الرغدة والسهلة نسبياً في الخارج من أجل رسالة محددة، هي الإسهام والإسراع بعجلة التنمية بدلاً من القراءة أو الكتابة عنها. وهذا هو أول استخلاص عام: إنه رغم انتقاد الكثيرين منا لـquot;شباب هذا اليومquot;، فقد رأيت من خلال فانيسا، وكثير من زميلاتها وزملائها الذين حضروا الجنازة، أن كثيراً من هؤلاء الشباب هم أيضاً أصحاب رسالة، قضية سياسية أو اجتماعية أو تدعيم منظمة من منظمات المجتمع المدني. وبالرغم من أنهم يلعبون جيداً ويتمتعون بجزء من حياتهم اليومية، إلا أنهم قادرون على التنظيم في مرحلة العولمة Networking وتعبئة الزملاء في أنحاء العالم لنصرة قضيتهم، عمل تعبوي جاد يفرض علينا نحن الكهول الإعجاب بهؤلاء الشباب واحترامهم.

الاستخلاص العام الثاني الذي تعلمته، هو طريقة الشباب في التفكير والإنجاز، وهي باختصار طريقة غير تقليدية أو خارج الإطار المتّبع Outside the box، أي طريقة إبداعية وخلاقة، وبسبب طريقة التفكير هذه أصبح هذا الشباب الدعامة الأولى للعولمة بتشعباتها المختلفة، وخاصة في أساسها التكنولوجي والاتصالي. فالمعروف أن البليونير بيل جيتس -رائد الاتصالات العالمي- بدأ يضع القواعد الأولى لمؤسسته الضخمة quot;ميكروسوفتquot; وعمره لم يتجاوز 14 عاماً، وهكذا -كما يقول نبيل علي في كتابه عن الثقافة العربية وعصر المعلومات- تقوم صناعة المعلومات على اكتشاف الشباب إدارة وبرمجة وتصميماً وتشغيلاً.

وتقول الإحصائيات المبدئية إن هناك حولى 100 ألف مدونة عربية يبحث أصحابها عن المعلومة أو يبتكرونها وينشرونها، وبالتالي يصبحون أساس القوة المعرفية، التي هي بدورها أساس السلطة والتسلط في عالم العولمة الذي يسيطر على حياتنا هذه الأيام.
وبما أن المدونات لا تتطلب أذوناً إدارية ولا ترخيصات من الجهات الرسمية، أصبحت المدونات من أهم الوسائل الحديثة للمجتمع المدني المعاصر، الذي هو من المفروض أن يكون أفراده هدفاً للتنمية، يساهم فيها ويحدد شكلها وتوجهها. وبالتالي فإن الاستخلاص الثالث الذي تعلمته من فانيسا، هو أن التنمية الحقيقية لا تأتي من أعلى ولكنها لكي تكون مجدية ومستديمة يجب أن تأتي من أسفل، من طبقات الشعب نفسه: From below، ويكون الأساس هو التعليم، ليس عن طريق الحفظ عن ظهر قلب دون تمحيص أو تفكير، ولكن التعليم الإبداعي الذي يقوي المهارات الفردية، وأولها كيفية مواجهة الظروف المتطورة والجديدة التي تفرضها العولمة، سواء كانت هذه الظروف في سوق العمل أو في التعامل مع الحياة اليومية العادية. وقامت بتطبيق هذا الثراء العلمي الإبداعي في سلوكها الشخصي. فهي تعد درجة الماجستير في الاقتصاد السياسي، هذا العلم الجاف، ولكنها أيضاً فنانة تشكيلية تقيم المعارض وتقدم لوحاتها التي تبعث برسالة واضحة عن مثالب سوء التخطيط العمراني وقسوة الفقر والعشوائيات.
الشباب بين سن الـ14 والـ25 ربيعاً يمثل في منطقتنا -ككثير من الدول النامية- حوالى ثلث المجتمع، هذا الحجم الكمي والنوعي الهائل قد يكون قوة دفع لهذا المجتمع إذا أحسنا إدارته، كما أنه قد يزيد من مشاكلنا إذا تم إهماله. علاقتي بفانيسا وزملائها تبين أن الحل في أيدينا، لنحوّل فجوة الأجيال إلى حوار الأجيال وتكاملها.