مها فهد الحجيلان
تعيش بلادنا البهية نهضة علمية مشجعة، فعوضا عن تزايد أعداد الجامعات والكليات والمعاهد السعودية من أهلية وحكومية في مختلف التخصصات للطلاب والطالبات؛ فهناك توجه قوي للابتعاث حيث يدرس الآن آلاف الطلاب والطالبات في دول مختلفة غربية وشرقية وعربية. ومن المؤمل أن يعود هؤلاء الشباب بدرجات علمية عالية تساهم في رفعة هذا البلد وتبرز تميزه وثروته البشرية التي يملكها أبناؤه وبناته.
ولو نظرنا في وضع المبتعثين والمبتعثات، ففي الحقيقة هناك عوامل مختلفة تحدد مستوى ونوعية نجاحهم في دراستهم وتحصيلهم؛ فهناك إصرار الطالب على إنهاء الدرجة رغم صعوبات اللغة والثقافة ومرارة الغربة، وقبل هذا يجب أن يكون هذا الطالب مؤهلا أكاديميا ونفسيا للعيش في هذه التجربة الممتعة والصعبة في نفس الوقت. والمهم في هذه التجربة ليس فقط النجاح الأكاديمي بل كذلك النضج النفسي والتطور على المستوى الشخصي بحيث يعيش الشاب حياة مستقلة ويفكر بشكل جدي في مسكنه وأموره المالية والصحية وصداقاته ومذاكراته ومع من يتحدث ومن يتجنب. ومع حرصه الصحي يجب أن لا يحرم نفسه من التعرف على ثقافة هذا البلد الجديد ومعرفة معطياته التراثية بشكل إيجابي دون الانحدار في متاهات تجريب الضار والمفسد عاطفيا وجسديا.
وبعض المبتعثين وخاصة هؤلاء الشباب الصغار من خريجي الثانوية بل أحيانا بعض من خريجي البكالوريوس ممن يتقاطعون مع الفئة الأولى ببعض الصفات السيكولوجية العامة يحتاجون أكثر من غيرهم لتوجيه ثقافي عام بحيث نحد من فرص فشل هؤلاء الطلاب والطالبات بسبب انشغالهم بأمور سلبية تساهم في تخلفهم الدراسي ثم رجوعهم للوطن بخسائر نفسية ومادية.
فعلى سبيل المثال يمكن أن نركز في هذا المقال على صنفين متناقضين من المبتعثين والمبتعثات ممن لم يعرفوا حتى الآن الكيفية الصحية المناسبة للحياة في بلد مختلف صاحب ثقافة غير عربية أو إسلامية. فهناك مثلا الفئة المتزمّتة جدا؛ وهذه الفئة ليس بالضرورة أن تكون متدينة لأن الدين على بيّنة ومعرفة سوف يساعد الإنسان على اختيار نمط حياتي مناسب لتوجّهه ولا يخل بظروفه المعيشية الخارجة عن سيطرته. ولكن ما أقصدهم هنا هم فئة من الشباب غير الواعي دينيا ولكنهم يأخذون أحكاما فقهية بالسماع ولا يعرفون من الدين إلا ما يقوله لهم الآخرون. وهذه الفئة تأتي لهذا البلد محملة سلفا بقسط كبير من الانغلاق الفكري بحيث لا ترى هذا العالم إلا من خلال شق صغير للغاية وتخشى أن تحاول الرؤية من زاوية أخرى لأنها قد تصاب لا سمح الله بالعمى الروحاني فتذهب مباشرة لنار جهنم والعياذ بالله!
هذه الفئة معروفة بتكفيرها أو على أقل تقدير تفسيقها لكل من يخالف تقاليدها وأحكامها الدينية العامة بحيث يرون كل سيدة لا تلتزم بغطاء الوجه فاسقة وكل رجل غير ملتح مذنباً ولا تقبل نقد أي شخصية دينية من الشيوخ المعاصرين لأنها تجد في هذا تعديا سافرا على قواعد وثوابت أساسية في الدين؛ وخلطها الواضح في المفاهيم أمر لا يمكن حله بسهولة لأن هذه العقلية السلبية والأحادية تتقوقع على نفسها أكثر حينما يعيش الشخص في بلد غربي لأنه من جهة يعيش صدمة حضارية بسبب الثقافة الجديدة؛ وهذه الصدمة الثقافية بحد ذاتها كفيلة بأن تجعل أي إنسان يعيش نوعا من الاكتئاب وقد تزيد على هذا صعوبات دراسية وحنين قوي للوطن فيرجع الشخص للشيء الوحيد المألوف لديه والذي يشعره بنوع من الاطمئنان وهو الدين. فيبدأ بالتزمت أكثر لأنه ليس لديه وقت حتى يقرأ الدين بالشكل الصحيح فيكتفي بتكرار قراءة الآراء على النصوص الثابتة ويهمل تسامح الإسلام ومواكبته لكل زمان ومكان.
ولكي نفهم أكثر هذا الصنف المتشدد الذي يتصف بضعف الثقافة الدينية يمكن لنا أن نذكر قصة مجموعة من الشباب المبتعثين الذين فاجأهم الثلج والمطر وهم يسيرون في الطريق في إحدى المدن في أمريكا، فاحتموا في مبنى لم يعرفوا ماهيته حتى انتهت العاصفة. وحينما خرجوا من المبنى وجدوا أن ذلك المبنى كان كنيسة فخافوا أنهم قد اقترفوا ذنبا بدخولهم إياها ولم يستقر لهم قرار حتى كتبوا لأحد المشايخ واستفتوه فيما فعلوا فبين لهم جواز ذلك.
هؤلاء الطلاب لم يعرفوا أن الإسلام يكفل حق الكتابي في دينه ولم يحرم على المسلم دخول الكنائس، بل إن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل كنيسة القيامة وما منعه من الصلاة فيها إلاّ خشية أن يترك المسلمون الصلاة في المساجد ويصلوا في معابد أهل الكتاب. هذا إلى جانب أن الدين الإسلامي هو دين تسامح ومغفرة وسمو، فأين هؤلاء من كل هذا؟!
لقد اقتصر الدين عند هذه الفئة على التضييق على الناس وتطفيشهم من الحياة الطبيعية بينما واقع الحال أو المفترض أن الأديان السماوية أتت لكي تخلص الناس مما ينغصهم ويضيق حياتهم.
والصنف الآخر هم الذين يعانون ضياع هوية وانسلاخا ثقافيا بحيث تركوا مشيتهم مبتغين تعلم مشية غيرهم؛ فلا هم فلحوا في هذا ولا ذاك. يقول أحد القراء المبتعثين المتحمسين إنه يعاني ألما نفسيا حينما يشاهد بعض الشباب يعيشون حياة أخلاقية منسلخة بحيث بدأوا في تجريب أمور سلبية ضارة مثل شرب الخمر وتعاطي بعض أنواع المخدرات والجنس المحرم. وهذه الملاحظات ليست مقتصرة للأسف على الشباب بل النساء كذلك اللاتي يعيش بعضهن حالة من التخبط والتشتت مجيشة طاقتها وتفكيرها في أمور لم تذهب لأجلها من الأساس.
وهذان الصنفان في رأيي لم يعرفوا حتى الآن كيف يستفيدون بشكل مناسب من هذه الخبرة المتميزة التي وثقت فيهم بلادهم كفاية لكي تعطيهم إياها. فالصنف الأول سوف يرجع للبلاد وهو لم يفهم تلك الثقافة الأجنبية بل وربما يبدأ في ترويج صور سلبية ممجوجة بتزمته وفهمه الخاطئ عن تلك البلاد لكونه عانى في البداية من الرفض الاجتماعي ثم تحول إلى الانعزال النفسي الذي كان يحمي نفسه به من الرفض الاجتماعي المؤلم. وهذا الصنف في واقع الحال لم يعش في تلك الثقافة بل رجع بصور مشوهة عنها، وكونه جسديا كان في ذلك البلد فالناس سوف تصدق هذا الشخص بكل ما يقوله وهنا يكمن الخطر، فبدل أن يرجع إلى الوطن بدرجة علمية مفيدة وخبرة حياة متوازنة بحيث يستطيع أن يشرح الجوانب السلبية والإيجابية في الثقافة الأجنبية بشكل موضوعي يعمق التفاهم والانفتاح الاجتماعي أصبح يغرق في الظلامية بشكل لا يمكن إلا أن يكون ضارا على جميع الأصعدة.
والصنف الآخر يرجع إما فاشلا في الدراسة ومحملا بالهموم النفسية والأضرار العاطفية والجسدية التي يمكن أن ينقلها لغيره في بلاده. هذا عوضا عن الخسائر المادية التي تكلفت بها حكومته في سبيل أن ينجح أكاديميا، وفي نهاية المطاف يعود لكي يضر الآخرين جسديا في حالة كونه يعاني من مرض معد انتقل إليه بسبب أسلوب حياته المنحرف أو على أقل تقدير يعود فاشلا محطما نفسيا وفاته كثير من فرص التوظيف والدراسة.
أتوقع أنه أمر جميل أن يعيش الإنسان في ثقافة مختلفة؛ ولكن الأجمل أن يعرف أنه إنسان ناجح أكاديميا واجتماعيا لكي يستمتع بالحياة بشكل صحي لا يخلّ بهويته الثقافية ولا ثوابت دينه وبنفس الوقت ينجح أكاديميا، وهنا تتضح إيجابية خبرة الابتعاث.
التعليقات