أخلص العمل وقدّم الرأي والمشورة وتفانى في كل ما أسند إليه
الموت يغيب العنقري الوزير والمستشار العازف عن الأضواء


محمد السيف

غيّب الموت أمس في مدينة جنيف السويسرية الشيخَ إبراهيم بن عبد الله العنقري، المستشار الخاص للملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، عن عمر ناهز الـ 80 عاماً، قضى منها 55 عاماً في خدمة وطنه، موظفاً ووزيراً ومستشاراً خاصاً، حافظاً للأسرار وكاتماً لها.


إبراهيم العنقري، الذي يُصلى عليه اليوم في المسجد الحرام ويوارى في الثرى في أطيب البقاع وأطهرها، مكة المكرمة، إنفاذاً لوصيته، ولد في ثرمداء في إقليم الوشم ( شمال غرب مدينة الرياض) قبل ثمانين عاماً، وتحديداً في عام 1347هـ، الموافق 1927، وهو العام الذي حدثت فيه معركة السبلة، تلك المعركة الفاصلة في تاريخنا السياسي والثقافي. لذلك فإبراهيم العنقري من الجيل السعودي الذي ولد ونشأ وعاش وتفتحت مداركه في المرحلة الثانية من ملحمة التوحيد والبناء، وهي المرحلة التي توجّه فيها المليك المؤسس، طيب الله ثراه، إلى وضع أُسس البناء والتنمية وتأسيس الإدارات والمؤسسات الحديثة، ليتحول المجتمع السعودي إلى مجتمع مدني، متعلمٍ ومنتجٍ وبانٍ.


درس العنقري مراحل التعليم العام في مدينة الرياض، التي انتقل إليها من قريته باكراً، واختبر في مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، ثم أُبتعث إلى مصر ودرس في جامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1952 (1372هـ) وكان من أبرز زملائه في الدراسة في مصر الشيخ عبد الرحمن أبا الخيل والشيخ ناصر المنقور والدكتور عبد العزيز الخويطر والشاعر عبد الرحمن المنصور.


بعد أن أنهى البعثة، عاد إلى وطنه، لينخرط موظفاً في وزارة المعارف عام 1373هـ، التي تأسست آنذاك، وكان العمل الذي أُسند إليه، حال وصوله، هو العمل مساعداً لمدير مكتب سمو وزير المعارف الأمير فهد بن عبد العزيز، لتبدأ من ذلك الوقت فصول علاقة وثيقة ومتينة بين الأمير (الملك فيما بعد) وإبراهيم العنقري، وكان قوام هذه العلاقة الثقة والحب والإخلاص والتفاني، ليصبح العنقري الرجل الثقة القوي الأمين، وليكون في الطليعة من رجالات الملك فهد بن عبد العزيز.


في فترةٍ ما، نُقلت خدمات العنقري إلى وزارة الخارجية، وتعيّن فيها رئيساً للمراسم الملكية، وكان عضواً في الوفد السعودي المشارك في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في دورتها السادسة عشرة، ثم تعيّن مستشاراً في السفارة السعودية في واشنطن.
وفي عام 1962 الموافق 1382هـ، وبعد أن تعيّن الأمير فهد بن عبد العزيز ( الملك فيما بعد) وزيراً للداخلية، وقع اختياره على الرجل الذي خَبَره وعرَفه، على إبراهيم العنقري ليكون وكيلاً لوزارة الداخلية، في فترةٍ حرجة شهدت فيها المنطقة اضطرابات إقليمية. فكان أن أخلص العنقري العملَ وقدّم الرأي والمشورة، وتفاني في كل ما أسنده إليه سيده الوزير الأمير فهد بن عبد العزيز، إذ رأس لجنة الضباط العليا ولجنة الترشيح لمنح الجنسية السعودية. وتتويجاً لتفانيه وإخلاصه، عُيّن العنقري وزيراً للإعلام في عام 1390هـ (1970) خلفاً لوزيرها الشيخ جميل الحجيلان. وقد جاء تعيين العنقري وزيراً للإعلام في فترة شهدت انبعاثا نهضويا، ثقافيا وتعليميا وإعلاميا، سيما بعد دخول التلفزيون إلى المجتمع السعودي (1964)، الأمر الذي يتطلب نوعاً خاصاً من التعامل مع هذه الوسيلة الإعلامية الجديدة، فكانت حكمة الشيخ وحنكته. ويحفظ عدد من الذين عملوا في وزارة الإعلام مع الشيخ العنقري عدداً من المواقف الطريفة حيال فسح بعض المواد وإجازتها. وقد كتب الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في تباريحه شيئاً منها، وكان وقتها يعمل مراقباً على ما يُبث من مواد سمعية، وذات مرة دخل عليه الشيخ الوزير وكان ابن عقيل هائماً بخياله وفكره، منسجماً مع سجعات أم الوليد، نجاة الصغيرة، فقال له الوزير: (ابن عقيل: والله ولا في فرنسا !!).


بعد انتقال الملك فيصل بن عبد العزيز إلى جوار ربه عام 1395هـ (1975) وفي التشكيل الوزاري الذي أعلنه الملك خالد بن عبد العزيز، تعيّن الشيخ إبراهيم العنقري وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية، وظل في هذا المنصب إلى عام 1403هـ (1983)، حينما أصدر الملك فهد بن عبد العزيز قراره بتعيين الشيخ إبراهيم العنقري وزيراً للشؤون البلدية والقروية، خلفاً لوزيرها الأمير متعب بن عبدالعزيز، في فترة وزارته الأولى عليها. وتُعد فترة وزارة العنقري للشؤون البلدية والقروية فترة التوسع اللا محدود في المشاريع البلدية والقروية، حيث شهدت المدن والقرى نهضة تنموية، في أعمال التخطيط والنظافة البيئية والسفلتة والرصف والإنارة والتشجير، نتيجةً للدعم الكبير الذي وجدته الوزارة من الملك فهد بن عبد العزيز. وخلال عمله وزيراً للشؤون البلدية والقروية، عمل العنقري رئيساً للمعهد العربي لإنماء المدن وعضواً في عدد من اللجان الوزارية. وفي عام 1989 (1409هـ) أصدر الملك فهد بن عبد العزيز قراره بتعيين الشيخ العنقري مستشاراً خاصاً له، ليودع بذلك العمل الإداري وليتفرغ بشكل أكثر من ذي قبل لخدمة المليك والوطن من خلال الرأي والمشورة، وظل في معية المليك مستشاراً خاصاً حتى ذرف الدمعة الحرّى وهو يبكي مليكه وسيده الذي انتقل إلى رحمة ربه في آب (أغسطس) 2005 (1425هـ) ليتقدم إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بطلب أن يُعفى من عمله، فصدر قرار الملك عبد الله بإعفاء الشيخ العنقري من منصبه. وكان متوقعاً بعد أن تفرغ الشيخ الحكيم أن يُسجّل مذكراته وذكرياته ويدونها في سجلات التاريخ، فلقد عايش عن قرب أحداثاً جساماً، وشهد على تحولات مجتمعه، منذ أن أرسى دعائمه مؤسسه الكبير، وعاصر تقلبات شهدتها المنطقة العربية، منذ الخمسينيات وسنوات غليانها وليس انتهاء بالحدث الجلَل، الذي هزّ المنطقة حينما اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، مروراً بأحداث الستينيات وما تلاها. ولا نعلم هل بدأ الشيخ كتابة مذكراته أم أن الفسحة الزمنية الفاصلة بين تقاعده ووفاته لم تمهله طويلاً؟!


عُرف عن الشيخ العنقري أدباً جماً وتواضعاً كبيراً وابتسامة شامخة، إذ كان طويل القامة. كما عُرف عنه صمته، المنطوي على وقارٍ وحكمة، وعزوفاً عن الأضواء، فالأضواء مُحرقة، كما يقول، وقد اتسم بالحزم والعزم والجِدّ والمهابة، ويبدو أن لعمله في وزارة الداخلية وترؤسه لجنة ضباطها أثراً في تشكيل هذه الصرامة والمهابة لديه.


كان مثقفاً بارعاً وقارئاً نهماً، وكان لتعليمه المبكر في القاهرة أثره في تشكيل ثقافته ووعيه، وكان أكثر ما يستهويه الأدب العربي، فيطرب لسماعه وكان قد حفظ منه القصائد المطوّلة.


تحدث كثيرون عن إنسانيته ونبله وحبه للخير، وقد كتب أبو عبد الرحمن الظاهري مرات عدة عن مواقف إنسانية وقفها معه الشيح العنقري، ولعل مما ننشره للمرة الأولى هو تلك الزيارة التي قام بها الشيخ العنقري للأديب الكبير عبد الله عبد الجبار، الذي كان مديراً للبعثات في القاهرة حينما كان العنقري طالباً فيها، حيثُ زاره في منزله المتواضع في مكة المكرمة قبل نحو 15 عاماً وتناول معه طعام العشاء المتواضع، المكوّن من صحن فول ورغيف عيش!
رحل الشيخ إبراهيم العنقري مخلفاً وراءه ابناً واحداً هو مازن، وابنة واحدة هي عبير، فرحمه الله وغفر له، وجزاه خير الجزاء على ما قدّم.