محمد عاكف جمال

لم تعد روسيا دولة شيوعية يخشى الغرب أيديولوجيتها ويتخوف من تحالفاتها وخططها في التغيير الجذري للنظم السياسية، ولم تعد بعبعاً لتخويف الدول الأخرى لإيجاد المبررات لحصارها وعزلها كما كان الحال في الماضي.

روسيا الآن دولة تتبع نفس النظام الاقتصادي في الغرب وأيديولوجيتها مرتبطة بمصالحها الاقتصادية شأنها في ذلك شأن الدول الغربية الأخرى. إلا أنها ليست مع الغرب المنغلق على نفسه والراغب في أن يتقمص الآخرون رداءه، فها هي تعود إلى الساحة السياسية الدولية بقوة بعد أن خرجت متعافية من مرض الانحطاط الذي عانته في عهد بوريس يلستين.

وعودتها القوية تصاحبها خلافات مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة بشكل خاص، والحقيقة أن هذه الخلافات خطيرة للغاية مما ينذر بتطور الحرب الباردة التي بدأت نذرها منذ فترة وجيزة. ولعل أبرز هذه الخلافات وأخطرها هو إصرار الولايات المتحدة على عدم السماح بنشوء قوة عظمى أخرى في العالم فذلك أبرز محاور فلسفة الأمن القومي الأميركي، في حين ترى دولاً أخرى نفسها مؤهلة لزيادة مساحة دورها في السياسة العالمية وتقف روسيا في الصف الأول لهذه الدول بحكم تأريخها وثقلها.

أجواء التوتر التي خيمت على القمة التي عقدت بين الرئيسين الروسي والأميركي في الأول من يوليو المنصرم أعادت إلى الأذهان حقبة الحرب الباردة التي رسمت ملامح ما يقرب من نصف القرن العشرين. أبرز الخلافات هي:

1. الدرع المضادة للصواريخ التي تزمع الولايات المتحدة نشرها قرب الحدود الروسية في بولندا وتشيكيا والتي ترى موسكو أنها إخلال كبير بميزان القوى في أوروبا وأبرز تهديد لأمنها رغم حرص الولايات المتحدة الادعاء بأنها موجهة ضد أخطار محتملة قد ترد من إيران أو كوريا الشمالية. وتتكون هذه الدرع من منظومة رادارية تنشر في تشيكيا عام 2011 ومنظومات صواريخ تنشر في بولندا بين عامي 2011 و2013، على الرغم من أن الدولتين لم تعلنا بعد عن موافقتهما النهائية على استضافة هذه الدرع.

2. توسع حلف الأطلسي باتجاه الشرق وانضمام دول كانت سابقاً حليفة لروسيا في معاهدة وارسو.

3. سعي واشنطن وحلفائها الأوربيين إلى منح إقليم كوسوفو الاستقلال وفصله عن جمهورية الصرب التي تعتبرها موسكو حليفاً تقليدياً لها.

4. استمرار الولايات المتحدة في زيادة ميزانيتها العسكرية.

5. إصرار الولايات المتحدة للانفراد في معالجة شؤون الشرق الأوسط.

كما أن هنالك خلافات جذرية بين موسكو وواشنطن تتعلق بقضايا كثيرة منها الموقف من احتلال العراق والملف النووي الإيراني وقضايا أخرى أقل أهمية. في المقابل اتخذت موسكو من جانبها إجراءات لمواجهة هذه المخاطر لا يمكن اعتبارها دفاعية فقط بل تصعيدية بطريقة محسوبة أبرزها:

1. بدأت روسيا بتحديث منظومات صواريخها النووية لإكسابها مناعة ضد هذه الدرع، كما هددت بوضع جميع الأهداف الأوروبية في مدى الصواريخ النووية الروسية في حال قيام الولايات المتحدة بتنفيذ هذا المشروع.

2. قامت روسيا بتعليق معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية في أوروبا وهو إجراء يسبب الكثير من المتاعب لدول أوروبا الغربية.

3. عادت القاذفات الروسية الإستراتيجية للتحليق والمراقبة في الأجواء التي كانت تحلق فيها في السابق أبان الفترة السوفييتية.

4. أعلنت روسيا ملكيتها لجزء كبير من القطب الشمالي في ضوء دراسات علماء روس ادعوا بأن السلاسل الصخرية التي تقبع تحت ثلوج القطب الشمالي ترتبط بالأراضي الروسية وقد نشرت إحدى الصحف الروسية الخارطة الجديدة لروسيا حيث ألحقت بها مساحة مثلثة الشكل تقريباً تبلغ خمسة أضعاف مساحة بريطانيا ويُعتقد بأنها تضم مكامن نفطية وغازية تزيد على ما هو موجود في الخليج العربي.

وقد أحدث هذا الإعلان صدمة في كل من الولايات المتحدة وكندا اللتين تشاركان روسيا والدانمارك والنرويج في الإطلال على القطب الشمالي.

قامت روسيا بنشر أسطول غواصاتها النووية في المنطقة القطبية الشمالية.

5. تزايد نشاط الأسطول البحري الروسي في البحار.

6. أجرت روسيا تجارب على جيل جديد من الصواريخ القادرة على اختراق الدرع الأميركية.

7. أدلى مسؤولون روس على مختلف المستويات بتصريحات لا تخلو من التهديد كان آخرها تصريحات رئيس الأركان الروسي جاء فيها بأن روسيا لا تستبعد القيام بهجمات استباقية لاجتثاث مصدر أي تهديد لأمنها، ولم يستبعد استخدام السلاح النووي لأجل ذلك.

كانت الحرب الباردة أبان العهد السوفييتي عالمية الطابع وذات صبغة أيديولوجية انعكست في صراع وجود بين أيديولوجيتين تنفي إحداهما الأخرى عجزتا عن التعايش مع بعضهما رغم ما جاء به قائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين حول إمكانية التعايش السلمي بين النظم الاشتراكية والنظم الرأسمالية والذي ثبت بأنه مفهوم نظري فحسب.

الحرب الباردة السابقة كان لها نفس البدايات التي نشهدها الآن، فقد بدأت على مستوى إقليمي في وسط وشرق أوروبا، أما الآن فإن الخطوط الأمامية للحرب الباردة الجديدة هي أراضي الاتحاد السوفييتي السابق ابتداء من أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق وصولاً إلى أراضي الدول التي كانت في حلف وارسو مثل بولندا وتشيكيا.

الحرب الباردة تتخذ في هذا العصر منحى جديدا غير محسوس في بعض جوانبه بين الولايات المتحدة ومنافسيها روسيا والصين، فالصراع بين أجهزة المخابرات على أشده، فمصادر المعلومات الحساسة في الولايات المتحدة قد أصبحت معرضة للهجوم من قبل أشخاص أو منظمات في روسيا والصين تعمل على اختراقها، فقد نشرت مجلة نيويورك مقابلة مع مايك ماكونيل مدير الاستخبارات الوطنية ذكر فيها بأن هنالك، وعلى مدار الساعة، ما لا يقل عن ثلاثة ملايين محاولة غير مرخصة للدخول إلى شبكة حاسبات وزارة الدفاع الأميركية.

وحسب ما يعتقد خبراء في المخابرات الأميركية بأن حلفاء الولايات المتحدة معرضون كذلك لهجمات من هذا النوع فعلى سبيل المثال كشفت الحكومة الألمانية في مايو من العام المنصرم عن وجود برامج للتجسس في عدد من الحاسبات في وزارات مهمة واتهمت الصين بالمسؤولية عن ذلك.

الحرب الباردة التي يتسع نطاقها بين الولايات المتحدة وروسيا سوف تصبح عالمية الطابع في السنوات المقبلة كما كان الحال في الماضي، وسوف تُسهم في إعادة صياغة سياسات الكثير من الدول.