سليمان جودة
اختار «مهرجان طيران الإمارات للآداب 2026» موضوعاً أدبياً فريداً لدورته الجديدة آخر الشهر المقبل، وجاء الموضوع حول «أدب الجريمة» بكل ما يقترن به من إثارة وجاذبية وتشويق وإطلاق للخيال. وما إن طالعت شيئاً من تفاصيل المهرجان في دورته الجديدة الثامنة عشرة، حتى تذكرت برنامجاً إذاعياً ظلت الإذاعة المصرية تذيعه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وكان واحداً من البرامج التي نشأت عليها أجيال من جمهور الإذاعة.
البرنامج اسمه «أغرب القضايا» وكان في كل حلقة يزداد روعة وتألقاً، ولم يكن أحد من جماهير الراديو يستمع إلى حلقة من حلقاته إلا ويحرص على سماعه ومتابعته، وكان عبده دياب هو المخرج الذي اشتهر به البرنامج، وقد حصل على الكثير من الجوائز في الإخراج، وكان الاثنان الرجل والبرنامج علامتين من علامات الإذاعة المصرية منذ نشأتها.
أما نجوم البرنامج فكانوا من الأسماء الكبيرة، وكان في المقدمة منهم عبدالغفار عودة، محمود عزمي، بدر نوفل، زوزو نبيل، سميحة أيوب، إنعام سالوسة، أمينة رزق، وغيرهم كثيرون وكثيرات، وكانوا جميعاً يملكون من القدرة على الأداء الدرامي ما يجعل من كل حلقة من حلقات البرنامج وجبة إذاعية خيالية نادرة.
شيء من هذا سوف تذكره وأنت تتابع الأخبار التي تتسرب عن المهرجان يوماً بعد يوم، فتشعر كأنها تمنح الذين يستعدون لمتابعته وعداً بأن يجدوا أنفسهم على مائدة من الأدب في العموم، ثم من أدب الجريمة بالذات. وعلى كثرة ما يمكن أن يقال في مهرجان بهذا العنوان، وبهذا الموضوع، فإنني أتوقف أمام ثلاث نقاط على وجه التحديد، أرى أنها أدعى إلى أن نتوقف أمامها. أما الأولى فهي أن مهرجاناً كهذا هو في حقيقته دعوة للقراءة، لأنك لا يمكن أن تتابع أعماله، إلا وتجد نفسك مدفوعاً إلى التفتيش عما يمكن قراءته في هذا الفرع من فروع الأدب.. فكأن ما أطلقته وتطلقه «طيران الإمارات» ضمن مهرجانها سنة بعد سنة يتكامل مع طريق مشروع «تحدي القراءة العربي» الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، فكان ولا يزال عملاً من أعمال نشر الوعي بين الشباب في أرض العرب.
إن أدب الجريمة مشوّق ومُحَبّب إلى النفس بطبيعته، فإذا قام له مهرجان تتعدد دوراته عاماً بعد عام، كان ذلك من دواعي التأسيس لارتباط أقوى لدى كل قارئ بهذا النوع من الأدب، وكان أيضاً من دواعي لفت الانتباه إلى أن في الدنيا أدباً للجريمة يستحق أن يفرد له المهرجان دورة من دوراته، وأن يحظى باهتمام كل الذين نشأوا على أن الكلمة المقروءة لا يزال لها سحرها الغامض، وأنها إذا كانت مكتوبة على الورق لا على لوح إلكتروني ازداد سحرها الغامض بالضرورة.
وأما النقطة الثانية فهي أن مهرجاناً للأدب هو دعوة أخرى إلى شحذ الخيال، فإذا كان الأدب أدب جريمة، فإن شحذ الخيال لدى كل قارئ سوف يكون مُضاعفاً، وسوف يكون مضروباً في اثنين وربما أكثر. وقد عشنا نعرف أن الإذاعة أشد إثارة للخيال من التلفزيون، لأن الصورة على الشاشة تشغل العقل عن السباحة مع الخيال حيث يسبح. وبالقياس فإن أدب الجريمة يستدعي الخيال إلى رأس القارئ بأكثر مما يستدعيه الأدب في عمومه، إذا ما جاء ليتناول ما يريد أن يتناوله من مختلف القضايا في حياة الناس.
لو كان لي أن أشير بشيء في موضوع هذه الدورة من المهرجان، فسوف أشير إلى أن تضاف عبارة أدب الخيال إلى عبارة أدب الجريمة في العنوان.. وإذا حدث هذا سنجد أنفسنا أمام عنوان يمزج العبارتين ويخلطهما، ومنهما سوف نفهم أنه لا أدب جريمة بغير خيال يصاحبه ويلازمه، ولا خيال بمساحة أوسع وأرحب، إلا في أدب الجريمة على وجه الخصوص. وتبقى النقطة الثالثة متعلقة بالدور الاجتماعي الذي ترغب «طيران الإمارات» في أن تلعبه من فوق منصة مهرجانها ذي الموضوع الفريد.
الذين سافروا على متن «طيران الإمارات» إلى أي وجهة في العالم يعرفون أنها متميزة للغاية بين مثيلاتها من شركات الطيران التي تحلق في سماوات العالم، وأنها تحرص على تميزها وتزيد فيه، ولكنها لم تشأ أن تكتفي بدورها في مجالها، وأرادت أن تؤسس لدور في مجتمعها الإماراتي والعربي بما تتبناه من قضايا أدبية، وهي قضايا تتجدد تحت راية المهرجان وتتنوع من دورة إلى دورة، ثم تظل تنتقل من مربع إلى مربع آخر أوسع في الأفق وفي زوايا الرؤية معاً.















التعليقات