جيفري كمب

ألقى الرئيس جورج بوش آخر خطاب له quot;عن حالة الاتحادquot; أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس، في الثامن والعشرين من شهر يناير المنصرم. غير أن خطابه الأخير لم يأت بجديد يذكر. فقد انصب الاهتمام في نصفه الأول على أزمة الاقتصاد الأميركي، وعلى الحاجة الملحة الى حفز إنفاق المستهلكين عن طريق خفض الأسعار وتوفير ما يكفي من السيولة النقدية للمواطنين على أمل تشجيعهم على إنفاقها، ليسهموا بذلك في إنقاذ الاقتصاد القومي من خطر السقوط في هاوية الركود والكساد. ولما كان متوقعاً أن تكون لركود الاقتصاد الأميركي عواقبه الكارثية على الاقتصاد العالمي برمته، فإن الجزء الأكبر من تفادي أزمة اقتصادية عالمية، يقع على مدى قدرة إدارة بوش، على تنسيق اتفاق ثنائي حزبي حول حزمة محفزات اقتصادية، يسارع الكونجرس بإقراره في أقصر مدة ممكنة، حتى يصبح قانوناً ساري المفعول. وبصرف النظر عما يمكن تحقيقه في أمر هذا الاتفاق، فإن الذي لا شك فيه أن تحتل القضايا الاقتصادية، صدارة اهتمامات الناخبين في هذه الجولة التمهيدية من الانتخابات الرئاسية الأميركية، المعنية باختيار المرشحين الرئاسيين المؤهلين لخوض المعركة النهائية في شهر نوفمبر المقبل.

أما النصف الثاني من خطاب بوش حول حالة الاتحاد، فقد دار كله حول قضايا الأمن القومي والسياسات الخارجية. وكما كان متوقعاً، فقد أثنى الرئيس بوش على التقدم الذي أحرز في تقليص معدلات العنف في العراق، إلا أنه حذر في الوقت نفسه، من الصعوبات والتحديات المرتقبة في أفغانستان، ومن المخاطر التي يسببها المتطرفون في كل من لبنان وفلسطين وباكستان. ورغم استثناء إيران دون بقية دول العالم الأخرى لتوجيه الانتقادات إليها في خطاب بوش، إلا أنه لم يرد ذكر لعبارة quot;محور الشرquot; هذه المرة. أما فيما يتصل بتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد بدا بوش متفائلاً للغاية بقوله: quot;كما نقف أيضاً في مواجهة قوى التطرف في أرض فلسطين، حيث لنا أمل نتفاءل به. فقد انتخب الفلسطينيون رئيساً لهم، يدرك أن لمواجهة quot;الإرهابquot; أهمية رئيسية في تحقيق الدولة التي يستطيع فيها شعبه العيش بكرامة وسلام، جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وها قد حانت لحظة تحقيق الأرض المقدسة، التي تتعايش فيها بسلام معاً، دولتا إسرائيل وفلسطين الديمقراطيتانquot;.

غير أن الذي أغفله بوش في خطابه هذا، إنما هو التطور الأهم الذي حدث في جبهة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي هذه، وأكثرها خطورة، من حيث يرجح أن يعصف بآمال السلام التي تحدث عنها. والمقصود بهذا التطور الأزمة الدائرة حول قطاع غزة. ففي السادس والعشرين من شهر يناير من عام 2006، حققت حركة quot;حماسquot; فوزاً ساحقاً وغير متوقع في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، عبر منافسة ديمقراطية حرة ونزيهة. وما أن أعلنت النتيجة بوقت وجيز، حتى تلتها مواجهة سياسية حادة بين حركة quot;حماسquot; من جهة وحركة quot;فتحquot; التي يقودها الرئيس محمود عباس من الجهة الأخرى. ورغم أن تلك المواجهة بدت سلمية في أول الأمر، إلا أن عراكاً مسلحاً دار بين الطرفين في شهر يونيو من العام الماضي في قطاع غزة، انتهى ببسط حركة quot;حماسquot; سيطرتها الكاملة على القطاع، في حين خرجت منه حركة quot;فتحquot; طريدةً، صفر اليدين ممرغة الأنف.

ومنذ ذلك الوقت، ظلت سياسة كل من إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تدور حول ضرب عزلة خانقة على القطاع في وسط الصحراء، ومحاصرته اقتصادياً. وتقوم هذه السياسة على افتراض مفاده أنه عندما تبلغ معاناة سكان القطاع أشدها في ظل ويلات الحرمان التي يكابدونها وسط حالة العزلة والمصاعب الاقتصادية هذه، فإنهم سوف يرغمون على إدارة ظهورهم لحركة quot;حماسquot;، والانقلاب عليها. وتلك هي لحظة الضعف التي ستكسر أنف quot;حماسquot; وترغمها على التفاوض وفقاً لشروط خصمها الرئيس محمود عباس وأقرانه في حركة quot;فتحquot; المناوئة لها. وعندها يمكن أن تفتح كوة جديدة من أمل التقدم نحو تسوية سلمية للنزاع مع إسرائيل! غير أن ما حدث كان على عكس تلك التوقعات تماماً، حيث أثبتت حركة quot;حماسquot; عزمها وشدة بأسها، بينما لم تفلح سياسات الحصار الاقتصادي المفروضة على القطاع -رغم وقعها المؤلم- في وقف الهجمات الصاروخية اليومية التي تستهدف المستوطنات الإسرائيلية، انطلاقاً من أراضي قطاع غزة. فقد تمكن ناشطون من حركة quot;حماسquot;، من تحطيم سياج حديدي شاهق، يقع في الحدود الجنوبية للقطاع المشتركة مع مصر، في الرابع والعشرين من شهر يناير المنصرم. وفي حدود ساعات معدودة فحسب، إثر هدم السياج المذكور، تسلل إلى مصر، مئات الآلاف من مواطني القطاع نحو ضاحية رفح الحدودية. وأمام هذا التدفق الهائل لمئات الآلاف من الفلسطينيين الهاربين من جحيم الحياة وغلائها في بلادهم، وقفت قوات خفر الحدود المصرية مكتوفة اليدين، إما عجزاً أو تمنعاً عن وقف ذلك السيل البشري الجارف، من الذين تمكنوا من تحطيم قيود أسرهم. وقد كانت تلك لحظة مهينة لمصر، بقدر ما هي مثيرة لقلق إسرائيل وغضبها.

وبالنتيجة فسرعان ما طفحت على السطح أزمة قطاع غزة، باعتبارها مشكلة هائلة يواجهها الرئيس المصري حسني مبارك الآن. فالمعروف عن quot;حماسquot; أن لها حلفاء كثراً في الأوساط الإسلامية المصرية، ومن المؤكد أن تزداد القلاقل الأمنية الداخلية في مصر، ما لم تغلق الحدود المشتركة مع القطاع. والمشكلة أنه ليس أمام مصر من أجل تحقيق هذا الهدف، من خيار آخر سوى اتباع ذات النهج الوحشي الذي تتبعه إسرائيل في فصل أراضيها عن غزة. ولن يكون هذا النهج مرضياً لقطاعات واسعة من الشارع المصري الذي يبدي تعاطفاً كبيراً مع السكان الفلسطينيين في غزة المنكوبة.

وفي حال نشوب أزمة مصرية بسبب القطاع، فلن يكون من شأن هذه الأزمة، الإطاحة بآمال السلام الفلسطيني الإسرائيلي المرتقب فحسب، وإنما ستلقي كذلك بظلالها الوخيمة على اتفاق السلام المصري الإسرائيلي نفسه، وهو حجر الزاوية الرئيسي الذي تبلورت حوله سياسات أميركا الشرق أوسطية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.