علي عبيد

كنت أظن أن التعصب علامة تجارية مسجلة باسمنا نحن العرب والمسلمين، حتى شاهدت البرنامج الذي عرضته قناة laquo;العربيةraquo; الأسبوع الماضي عن الخلاف المستحكم بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية، وتعصب كل فئة منهما لمذهبها.

لم يتناول البرنامج الخلاف من زاويته التاريخية التي تعود إلى القرن السادس عشر عندما نشأت البروتستانتية كرد فعل لمظاهر الفساد التي بدت في كثير من شؤون الكنيسة الكاثوليكية ومناهجها وطقوسها،

وما أحدثته من بدع، ومسلك قسيسيها والقائمين عليها، وتحكمها في تفسير كل شيء، ومحاولة فرض آرائها على جميع أتباعها، حتى في الأمور التي لا علاقة لها بالدين كتلك المتعلقة بظواهر الفلك والطبيعة وشؤون السياسة ونظام الحكم وغيرها.

كان البرنامج يتحدث عن واقع قريب وأحداث لم يتجاوز تاريخها الثلاثين عاما، وتداعيات هذه الأحداث كاشتباكات الشوارع التي حدثت عام 2001 وأصيب خلالها عدد من رجال الشرطة والجنود، وأدت إلى احتراق عدد من السيارات بفعل الزجاجات الحارقة التي ألقاها مثيرو الشغب في تلك الأحداث.

كان سيناريو البرنامج مبنيا على حديث إحدى طالبات مدرسة هولي كروس (الصليب المقدس) الابتدائية، عن تداعيات الانفجار الناتج ـ على الأرجح ـ عن زجاجة حارقة صباح الأربعاء 5/ 9/ 2001 في شمال العاصمة الأيرلندية laquo;بلفاستraquo;.

وكان حديث الطالبة مؤثرا جدا، فقد أدى الانفجار إلى فزع ورعب بين تلميذات كاثوليكيات كن يتوجهن لليوم الثالث إلى مدرستهن تحت حماية مشددة من الشرطة والجيش، حيث تُضطر هؤلاء التلميذات إلى عبور شارع بروتستانتي للوصول إلى مدرستهن. كانت الطالبات يتوجهن إلى المدرسة بمواكبة طوق من رجال الشرطة والمدرعات، في حين كان يقوم حشد من البروتستانت بشتمهن ورشقهن بمختلف المقذوفات.

كان المتظاهرون البروتستانت يحتجون على مرور الأطفال الكاثوليك عبر مناطقهم في بداية العام الدراسي الجديد، مطالبين بأن يسلكوا طريقا آخر لا يمر بمنطقتهم. وقد استخدمت شرطة مكافحة الشغب حواجز من البلاستيك ودروعا لشق طريق لعبور الأطفال الذين لم تتجاوز إعمار بعضهم الرابعة،

وسط صفوف البروتستانت المحتجين الذين رمى بعضهم الزجاجات الفارغة على الأطفال، مما دعا وزيرة أيرلندا الشمالية المكلفة بالأمن وقتها إلى مطالبة المتورطين في أعمال العنف بأن يفهموا أنه يتحتم عليهم إعطاء الأولوية للأطفال.

كان كل متحدث من الكبار ـ في البرنامج ـ يمضي مغاليا في تعصبه لمذهبه، رافضا التعايش مع الطرف الآخر. وقد ميز الكاثوليك منطقتهم باللون البرتقالي، بينما اختار البروتستانت اللون الأخضر لتمييز منطقتهم. أما الأطفال فقد كانت براءتهم تخفف من وطأة هذا الاحتقان،

رغم أجواء التوتر التي تخيم على المعسكرين. وعندما سئل أحد الأطفال البروتستانت عن الفرق بينهم وبين الكاثوليك أجاب بكل براءة: laquo;الكاثوليك يحبون البابا ونحن نحب الملكةraquo;. وأبدى ثلاثة أطفال حملتهم عربة الفريق التلفزيوني إلى الجانب الكاثوليكي من المدينة، استغرابهم لهدوء المنطقة التي يدخلونها للمرة الأولى في حياتهم.

ورغم مرور أكثر من ثلاثة قرون على معركة laquo;بوينraquo; التي انتصر فيها الجيش البروتستانتي بقيادة الملك laquo;وليم أوف أورانجraquo; على الجيش الكاثوليكي الذي كان يقوده الملك laquo;جيمس الثانيraquo;، إلا أن البروتستانت ما زالوا يحتفلون بذكرى تلك المعركة، وينظمون مسيرات سنوية تخلد انتصارهم،

ويشتبكون مع الكاثوليك الذين يتصدون لهم محاولين منع مسيرتهم من المرور في حي laquo;أردوينraquo; ذي الأغلبية الكاثوليكية. وقبل أسبوع واحد فقط حذرت الشرطة من laquo;خطر إرهابي متزايدraquo;، وقالت إنها شددت الإجراءات الأمنية لإحباط أنشطة فصائل منشقة على الجيش الجمهوري الأيرلندي، ودعت الجمهور إلى الإبلاغ عن أي نشاط مريب.

هذا الانقسام الذي يبدو صارخا في أيرلندا الشمالية له مظاهر مشابهة في بلدان أوروبية أخرى وإن كانت أقل حدة وعنفا، كما هو الحال في سويسرا التي تحولت فيها جنيف منذ القرن السادس عشر إلى روما البروتستانتية تدرجا، لأنها احتضنت البروتستانت الهاربين من الاضطهاد الديني، بينما تغلبت الكاثوليكية في الكانتون المجاور لها (فريبورغ) رغم أن المقاطعتين تتحدثان الفرنسية.

وإذا كان التعصب المذهبي بين أبناء الدين الواحد لا يزال يجد له مكانا على أرض واحدة من الديمقراطيات العريقة في العالم، فلا داعي إذن للاستغراب من منع الحكومة البريطانية للداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي البالغ من العمر 81 عاما من زيارة بريطانيا لغرض العلاج،

وذلك استجابة للوبي المحافظين الجدد كما جاء في صحيفة laquo;الصنraquo; التي وصفت الشيخ بlaquo;واعظ الكراهية الذي يدعو إلى قتل مثليي الجنسraquo;، مشيرة إلى أن الخطوة جاءت بعد تدخل رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الذي أمر بعدم منح الشيخ القرضاوي تأشيرة زيارة إلى المملكة المتحدة،

رضوخا للضغوط التي مارسها زعيم حزب المحافظين البريطاني ديفيد كاميرون الذي وصف الشيخ القرضاوي بlaquo;الخطيرraquo; وطالب بمنع من نعتهم بlaquo;وعاظ الكراهيةraquo; من زيارة بريطانيا، رغم أن حكومة المحافظين السابقة سمحت للشيخ القرضاوي بزيارة بريطانيا خمس مرات خلال الفترة من عام 1995 إلى عام 1997،

ورغم أن الحكومة البريطانية قد غطت قبل عامين تكاليف سفر الشيخ القرضاوي وزوجته من قطر إلى مدينة اسطنبول التركية للمشاركة في مؤتمر، ورغم أن الشيخ القرضاوي زار بريطانيا عام 2004 بدعوة من رئيس بلدية لندن laquo;كين ليفينغستونraquo;. فهل تحول الشيخ القرضاوي بين عشية وضحاها من laquo;شيخ وديعraquo; إلى laquo;إرهابي خطيرraquo; ومن laquo;داعٍ للمحبةraquo; إلى laquo;واعظ للكراهيةraquo;؟!

الشيخ القرضاوي الذي وصفته صحيفة laquo;الصنraquo; ورئيس حزب المحافظين بlaquo;واعظ الكراهيةraquo;، يُعَدُّ واحدا من أبرز دعاة الوسطية الإسلامية التي تجمع بين السلفية والتجديد، وتمزج بين الفكر والحركة. وقد عُرِف بمنهجه الذي يتميز بالرؤية الشاملة المتوازنة والمستنيرة التي تقوم على التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وعلى الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.

وقد أدان بشدة جميع الهجمات الإرهابية التي وقعت في الغرب، بما فيها هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة، وتفجيرات العاصمة البريطانية لندن، والعاصمة الإسبانية مدريد، فضلاً عن تفجير بالي الذي استهدف سياحا أجانب في إندونيسيا. كما استنكر الهجمات الإرهابية في البلدان العربية، وآخرها التفجيرات الأخيرة التي استهدفت مكاتب الأمم المتحدة في العاصمة الجزائرية (إسلام أونلاين دوت نت).

فإذا كان الشيخ القرضاوي الذي يتصف بكل هذا الاعتدال ويحمل هذا السجل الحافل في إدانة الإرهاب laquo;خطراraquo; وlaquo;واعظا للكراهيةraquo;، فماذا نسمي إذن الصهاينة الذين يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز ويهدمون البيوت على رؤوس ساكنيها، ومع ذلك يتمتعون بدعم ديفيد كاميرون وحزبه ويحظون بمباركته؟!

وإذا كان الشيخ القرضاوي يواجه بكل هذا العداء، فلا غرابة إذن أن يواجه كبير أساقفة كانتربري laquo;روان ويليامسraquo; بكل الردود المعادية التي ووجه بها، عندما دعا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض المجالات ببريطانيا، ولا غرابة أن يصبح هو الآخر من laquo;وعاظ الكراهيةraquo; في زمن التعصب.

صحيح أنه لا وطن للتعصب ولا ملة للكراهية