ليلى أحمد الأحدب

لا يخلو الغرب من منصفين عموماً, ومنهم رجال دين مسيحيون خصوصاً, ويأتي روان ويليامز كبير أساقفة كنيسة كانتربري (الكنيسة الإنجيليكانية البريطانية) على رأس هؤلاء, فقد دعا في حواره لهيئة الإذاعة البريطانية يوم الخميس الماضي إلى quot;تكيف بنّاءquot; مع ممارسات المسلمين في مجالات مثل منازعات الأحوال الشخصية؛ بحيث تكون لهم حرية الاختيار في أمور قانونية بشأن الزواج والطلاق والمسائل المالية كالإرث والإنفاق؛ وفي نفس الوقت أوضح أنه لا أحد سليم العقل يريد أن يرى ذلك النوع من اللاإنسانية الذي صاحب تطبيق القانون في بعض الدول الإسلامية كالعقوبات القاسية والمواقف من المرأة.
كتبت مقالة سابقة عنوانها (الحدود في الشرع الإسلامي رحمة لا نقمة) مضمونها أنه كما تم اختطاف معنى الجهاد ليتحول إلى الإرهاب على يد ثلة مختلة الفكر, فإن تطبيق الحدود ناله التعنت من بعض المتشددين, بحيث أصبح سيفاً مسلطاً على رقاب الناس بدل أن يكون سبيل حفظ للمجتمع من الجريمة والفاحشة, فالخلل لا يكمن في العقوبة بحد ذاتها, بل الخطأ في فهم معناها وكذلك في طريقة تنفيذها, وكل من يعلم شيئاً بسيطاً عن الشرع الإسلامي يعلم أن عقوبات الإسلام عقوبات رادعة, ولكن قبل تطبيق أي حدّ يجب أن نتذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام:(ادرؤوا الحدود بالشبهات), كما أنه لا بد من تكوين الفرد المسلم ذي الضمير الحي والمراقبة الذاتية كي يصل تنفيذ الحدود لغايته المنشودة, فالحدود لم تُنفَّذ في العهد النبوي المكي وهي مرحلة تكوين الفرد المسلم, على عكس ما تم في العهد المدني وهو الذي تم فيه بناء المجتمع المسلم.
العقوبات القاسية التي تحدّث عنها الأسقف قد تكون الإعدام مثلا, ولكن كل الديانات السماوية تنصّ على أن القاتل يقتل, ولذلك فلا مجال لبحث هذه العقوبة, فالله سبحانه بيّن في القرآن (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) أما العقوبات الأخرى مثل رجم الزاني المحصن فقد اختلف عليها الفقهاء, وأغلبهم أنه يجب رجمه حتى الموت, لكن لا أحد من هؤلاء استطاع أن يجيب عن تساؤل الشيخ أبي زهرة عن حكم الرجم وكيف يمكن أن يكون مقصود الله هو تنصيفه في حالة الإماء كما في قول الله تعالى:(فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب), مما جعل الشيخ رحمه الله يستدلّ أن العذاب المقصود بالآية هو الجلد وليس الرجم, وأن تنفيذ حكم الرجم على الغامدية وماعز كان مستمداً من التوراة قبل أن تنزل سورة النور وفيها حدّ الزنا بالجلد مائة جلدة أمام طائفة من المؤمنين, وذلك للمتزوج وغيره, ولذلك لم يقبل الشيخ أبو زهرة بقول من قال إن السنّة نسخت القرآن في حد الزنا.
لم ترد أحاديث شريفة تدل على تطبيق الحد دون اعتراف الفاعل, مما يدل على أنه إذا لم يعترف فلا يمكن تنفيذ الحدّ إلا في حالة الزنا العلني أو برؤية أربعة شهود, ومع ذلك فما زلنا نسمع عن أحكام بالجلد تنفّذ على شبهة الزنا, وقد يكون مجرد وجود رجل وامرأة - غير محرمين لبعضهما - في مكان عام مبرّراً لإلقاء القبض عليهما بتهمة الخلوة, وقد يساقان بشكل غير حضاري إلى السجن, ولكن كيف يكونان في خلوة وهما في مكان عام؟!
نشرت العربية: نت نقلاً عن صحيفة عرب نيوز يوم الثلاثاء الماضي خبراً عن سيدة أعمال سعودية عمرها40 سنة وأم لثلاثة أبناء وتعمل كشريكة ومستشارة مالية في شركة مقرها جدة قدمت إلى الرياض لافتتاح فرع الشركة الجديد في الرياض, وقبيل وصولها أبلغها زميلها وهو مواطن سوري يعمل محللا اقتصادياً, أن الكهرباء مقطوعة في المكتب, وأن الجهات المعنية تقوم بإصلاح العطل, وقرر الزميلان تناول القهوة في مقهى ستارباكس الواقع أسفل مبنى المكتب, وذلك في قسم العائلات, وبينما كانا يتناقشان بأمور تتعلق بالعمل دخل إلى المقهى عنصر من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأجبرها على الركوب في سيارة أجرة قبل أن تجبر على الانتقال إلى سيارة خاصة بالهيئة, ثم أُجبرت على توقيع إقرار بأنها كانت في خلوة غير شرعية ومُنعت من الاتصال بزوجها في جدة ونقلت إلى سجن للنساء في الرياض حيث أمضت بضع ساعات إلى أن علم زوجها بالأمر وتدخل لإطلاق سراحها, وحسب الخبر أن أعضاء في الهيئة وجهوا تأنيباً لها على فعلتها معتبرين أن ما ارتكبته خطأ كبير وأن زوجها ليس إنساناً جيداً لتركها تقوم بما قامت به.
من الواضح أن السيدة لم تكن في خلوة, وحتى الخلوة فقد اختُلف في تعريفها, وبحسب المنطق العاقل والفطرة السليمة فإن الخلوة المحرمة هي التي يتمكن فيها الرجل من المرأة دون أن يستطيع أحد قطع خلوتهما كأن يقفلا عليهما الباب بالمفتاح من الداخل, وحتى هذه الخلوة ليس عقابها كعقاب الزنا, لأن الزنا له مواصفات سأل عنها الرسول عليه الصلاة والسلام ماعز عندما جاءه معترفاً بالزنا ومنها دخول المرْوَد في المكحلة, فحد الزنا يطبّق إما باعتراف الشخص نفسه أو بوجود أربعة شهود عدول لكن لا يعني ذلك تحقّق هذه الشهادة عبر التجسس لأنه أمر منهي عنه في الإسلام.
من خبر هذه السيدة التي تُعتبر ضحية لممارسات خاطئة, أنتقل إلى خبر نقلته الوطن يوم الجمعة الماضي عن سيدة مطلقة رفعت دعوى على زوجها الذي أراد أن يمنعها من أولادها, وعلى أخيها غير الشقيق الذي أراد أن يحرمها من إرثها, واللافت في الخبر أن السيدة وقعت مغشياً عليها لدى سماعها حكم المحكمة الكبرى في جدة بضم أطفالها الثلاثة لها, وكانت زوجة والدهم قد مارست عليهم كل صنوف التعذيب والحرق, وقد ذكرتُ عبارة (اللافت في الخبر) لأنني كطبيبة لم أسمع بمن يغشى عليه فرحاً قبل الآن, ولكن يبدو أن خوف هذه السيدة من أن تحرم من أولادها أو أن يكون مصيرهم كمصير أريج وغصون, كان دافعاً لفرحتها الشديدة بعد سماعها بالحكم.
يجب أن تنتهي قصص الجرجرة إلى السجن بسبب اتهامات باطلة, فليس من أخلاق المسلم تتبّع عورات الناس, وقد توعّد الرسول عليه الصلاة والسلام من تتبع عورات المؤمنين بأن يتتبع الله عورته حتى يفضحه في كسر بيته, وسيدة الأعمال التي وردت قصتها لم تفعل شيئاً مسيئاً ولا مشيناً, خاصة أنها ليست مراهقة, وحتى لو كانت مراهقة فالأحقّ بتأديبها والدها ووالدتها, أما أن تكون المرأة ربة أسرة ثم يضطرها عملها لبحث أمر ما مع زميل فكيف يمكن أن تحلّ المشكلة إلا بالفصل التام بين الجنسين؟! وقد قرأنا خبراً مفاده أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعدّت دراسة لمعرفة جدوى الاختلاط, فالسؤال المطروح هنا: على فرض أن الاختلاط محرم فكيف تخصّص الهيئة مبلغ 700 ألف ريال لدراسة جدوى ما حرمه الله؟!
أما السيدة المطلقة الذي غشي عليها من شدة الفرح فمن الضروري أن تكون قصتها عبرة لكل قاض يحكم بين زوجين مطلقين, بأن مصلحة الأولاد لن تكون إلا بحضانة والدتهم حتى يبلغوا سن الحلم ثم يختار الولد لنفسه, وأمّا البنت فتبقى في بيت والدتها حتى تبلغ سن الزواج, مع إنفاق الوالد على أبنائه وبناته كما لو كانوا عنده, وهذا ما يفرضه الحس السليم والفطرة الحانية.
عندما لا تعود قصص محزنة كهاتين القصتين تقرع آذاننا, يستطيع العالم كله - وليس فقط بريطانيا - أن يفكر في عدالة الإسلام ويأخذ بشريعة الله التي ما أنزلها إلا رحمة للبشر لإخراجهم من الظلمات إلى النور وعندها يرتفع الشعار القرآني:(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) وعندما نفهم الإسلام ونطبّقه بشكل إنساني فإن العالم كله سوف يتبع هذا المسار.