حازم صاغيّة
عبقريّةٌ، من دون أيّة مبالغة، عبارة بيار الجميّل laquo;قوّة لبنان في ضعفهraquo;، بل ربّما كانت أذكى العبارات - المفاهيم التي وصفت هذا البلد الصغير في عمره القصير نسبيّاً وفي شروط استمراره. وهي، الآن، أصحّ مما في أيّ وقت آخر:
فاليوم، حيث يُفترَض أننا أقوياء، هزمنا إسرائيل في laquo;انتصار إلهيّraquo; ومضينا نتوعّدها كي تلاقينا في حرب مفتوحة تكون بداية نهايتها، نرانا نتفسّخ على نحو غير معهود من قبل. وها هي اشتباكات الأحياء البيروتيّة المتصاعدة، والمفتوحة على احتمالات خراب عميم، تُنذرنا ببعض ما جنته تلك القوّة علينا.
ودائماً كان الأمر هكذا، لم يشذّ مرّة واحدة عن ذلك. فعندما قال الجميّل عبارته التي جلبت عليه سيلاً من الشتائم ولا تزال، كانت تنشأ التنظيمات المسلّحة، الفلسطينيّة واللبنانيّة، هازئةً من ضعف لبنان وهزال قدراته العسكريّة، فخورة بالكلاشنيكوف الذي laquo;يخلّي الدم شلالاًraquo;. إلاّ أن حرباً أهليّة ما لبثت أن انفجرت، حرباً استحضرت اجتياح إسرائيل واحتلالها. ولا نزال حتى اليوم نئنّ تحت تحديات القوّة التي أظهرناها حينذاك وذيولها.
ذاك أن المجتمعات المنقسمة، لأسباب تتّصل بالتواريخ والثقافة لا بالدسيسة الاستعماريّة الشهيرة، لا يمكن أن تكون قويّة عسكريّاً ولا يجوز. فالقوّة تلك، وهي تعريفاً قوّةٌ لطرف أهليّ بعينه، هي ما يخيف الأطراف الأخرى ويضعها على تخوم الحرب الأهليّة التي تمزّق آخر ذرّة من تلك القوّة وتقضي عليها.
هكذا يغدو ضعف لبنان في قوّته.
أما الوعظ حول قضايا مقدّسة عند البعض، مزعومة القداسة عند بعض آخر، فلا استطاع مرّةً، ولا هو يستطيع، أن يوحّد المنقسم. كلّ ما يقدر عليه، والشواهد لا تُحصى، جعلُ الانقسام تفتّتاً والتفتّت حرباً. فما دخلت الإيديولوجيّات النزاعيّة الكبرى البلدان المنقسمة إلاّ أفسدتها ووضعتها على حافّة الموت أو في حضنه.
لهذا فحينما قيل إن laquo;قوّة لبنان في ضعفهraquo; كان المقصود نزع الأدلجة عن مسائل البلدان التي تتعدّد في طوائفها ونظراتها وثقافاتها الفرعيّة. فمثل هؤلاء، وكم دلّ على انقسامهم يوم 14 شباط (فبراير) الماضي، لا يعيشون ولا يزدهرون إلا بالتخفّف من حمولة الايديولوجيا ما أمكن التخفّف، وبالابتعاد عن السلاح والقوّة ما أمكن الابتعاد.
أما قوّة لبنان، وهي ما لا نزال ننفق منها ونتعيّش عليها، فأُرسيت أسسها ما بين 1943 و1975، أي يوم كنّا ضعفاء. آنذاك تحسّنت معدّلات دخولنا ونمت جامعاتنا وتحسّن تعليمنا وتكاثرت مشافينا وراحت الرأسماليّة، بشيء من التعثّر حيناً وشيء من التباطؤ حيناً آخر، تمتدّ تباعاً من مهدها الضيّق في بعض بيروت والجبل الى أنحاء لبنان الأبعد.
ولنقل إن عبادة القوّة كان لها دوماً محازبون. فالقوّة ديانة معشوقة للمثقّفين والقوميّين والاشتراكيّين ونضاليي الإيمان، ومنها تُستمدّ صور وملاحم عن فعاليّة يبخل بمثلها واقع الحياة العاديّة. ويشهد تاريخ ألمانيا، مثلاً لا حصراً، كم افتُتن المثقّفون، بمن فيهم مثقّفو اليسار، ببسمارك الذي كرهوا سياساته الامبراطوريّة. إلاّ أن ألمانيا التي جعلها بسمارك قويّة حين وحّدها تسبّبت بحربين عالميّتين، دافعةً الى طرح سؤال كبير: ألم يكن من الأجدى لو بقيت مجموعة إمارات ثم نمت كما نمت لوكسمبورغ وليختنشتاين، وازدهرت كما ازدهرتا، من دون حروب مدمّرة؟
التعليقات