إبراهيم غرايبة

يمثل قيام دولة كوسوفا المستقلة حالة جديدة في عالم الإسلام والمسلمين تضاف إلى تجارب تركيا وألبانيا والبوسنة، وهي تجربة التجمع الإسلامي السياسي على أساس المكان والعلمانية، والواقع أنها تجربة قد تكون رائدة وقيادية في العالم الإسلامي، ويشجع على هذا الاستنتاج تجربة حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا.

كانت ألبانيا سباقة في تجربة العلمانية في العالم الإسلامي وقد سبقت تركيا إلى ذلك بسنوات، ولكنها لم تكن بالطبع في تأثيرها وتداعياتها بحجم تجربة مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، واليوم فإن ألبان كوسوفو يقدمون تجربة جديدة مختلفة عن تجربتي تركيا وألبانيا في أوائل القرن العشرين تدمج بين الإسلام والعلمانية، أو هي الدولة القائمة حول المكان والهوية والمصالح. فالكوسوفيون مسلمون يسعون للتمسك بهويتهم ووعي ذاتهم على أساس أنهم مسلمون، ولكنهم أيضا أوروبيون، وتربطهم بالغرب روابط كثيرة من الجغرافيا والتحالف السياسي، فلا شك أن استقلال كوسوفا كان بتأييد كبير من الولايات المتحدة الأميركية وحلف الأطلسي، ولذلك فإن الولايات المتحدة تحظى بتأييد كبير بين الألبان، وربما يكون الرئيس الأميركي محبوبا في كوسوفا أكثر من الولايات المتحدة.

وبذلك فإن التجربة الإسلامية في كوسوفا ستكون نموذجا يراقبه المسلمون جميعهم، وهم يطرحون علاقة الدين بالدولة في المحافل والانتخابات والتنافس السياسي والاجتماعي، وربما تقدم دولة كوسوفا أفكارا جديدة للمسلمين لينشئوا علاقاتهم الداخلية والخارجية وفق الهوية الإسلامية والعلمانية معا، أو ليختبروا دولة المواطنة التي تتشكل حول المكان، وتشكل الثقافة فيها بيئة محيطة تدفع المواطنين نحو أهدافهم وما يسعون لتحقيقه، فالدين والثقافة ليسا العنصر الأساسي المكون للدولة، فهي في حالة كوسوفا تقوم على الأرض والإنسان المواطن، ولكنه نموذج لا يتنكر أيضا للدين والثقافة ولا يغفل دورهما في النهضة والتنمية والانتماء والمشاركة، وهذا هو الاختلاف مع تجربتي أتاتورك وألبانيا.

من اللافت في التجربة كما يلاحظ الدكتور محمد الأرناؤوط في كتابه quot;الإسلام في أوروبا المتغيرةquot; أن المسلمين تجاوبوا إلى حد كبير مع الأفكار والدعوات العلمانية، وكان تأييدهم لفصل الدين عن الدولة أكثر من الألبان المسيحيين.

واليوم والمسلمون في كوسوفا يقيمون دولتهم الجديدة المستقلة فإنهم لا يحققون فقط الاستقلال لأنفسهم، ولكنهم ربما يقودون عملية تحول كبيرة في العالم الإسلامي والعالم أيضا، وهي القدرة على بناء الأوطان على أساس المواطنة وفي بيئة من الثقافة والاختلاف معا، وإنهاء الأسطورة التي مزقت الشعوب والدول والأمم، وكانت محركا لحروب وجرائم ومجازر طويلة ومرعبة.

لقد كان قيام دولة كوسوفا أمرا متوقعا منذ نهاية الحرب الباردة وبدء تفكك يوغسلافيا بعدما أصبح التعايش الثقافي والقومي متعذرا وبعد الحروب والمجازر التي وقعت، وبخاصة أن كوسوفا تمتلك مقومات الدولة، فعلى مساحتها البالغة حوالي أحد عشر ألف كيلومتر مربع يعيش مليوني نسمة يشكل الألبان منهم 90%، ومعظم الألبان مسلمون وإن كان بعضهم يدين بالمسيحية لكنهم يتحالفون مع المسلمين في مواجهة الصرب، وتمتلك كوسوفو من البنى التحتية والموارد ما يؤهلها لإقامة اقتصاد مزدهر، ففيها من الفحم الحجري والمياه والمعادن ما يكفي لاحتياجاتها وللتصدير أيضا.

وقد أشار الدكتور محمد الأرناؤوط إلى معلومات كشفتها صحيفة quot;داناسquot; البلغارية تضيف أبعادا اقتصادية متعلقة بالمعارضة الروسية والصربية لاستقلال كوسوفا، فقد ذكرت الصحيفة أن كوسوفا تخفي في باطنها 20 مليار طن من الفحم الحجري لم يستهلك منها سوى 2%، وتشكل 70% من احتياطي صربيا من الطاقة وتتجاوز قيمتها السوقية الخمسمائة مليار دولار. ولأجل ذلك فإن الشركات المتعددة الجنسيات تبدي اهتماما كبيرا بالاستثمار في كوسوفا.

كانت كوسوفا أكثر مناطق يوغسلافيا تخلفا برغم ثرواتها المعدنية والطبيعية والزراعية الهائلة، ولكنها تستطيع بعد الاستقلال أن تكون بلدا غنيا ومزدهرا، وهذا ما يعنيه الاستقلال بالنسبة لأهلها، وقد بدأت بالفعل تنمو فيها استثمارات كثيرة، وبخاصة من قبل الألبان المهاجرين إليها من جديد بعد موجة هجرة واسعة شهدها الألبان على مدى القرن العشرين.

لقد قبل الألبان منذ بداية القرن العشرين بالعلمانية، وكان حماسهم لها أكثر من المسيحيين وهذه مفارقة لافتة، ولكنهم برغم ذلك تعرضوا لاضطهاد عرقي وديني وكانوا ضحية التعصب الديني، ولم تساعدهم العلمانية كثيرا في القبول في أوروبا، ولكن أوروبا تدرك اليوم أنها تدفع ثمن رفض استقلال الألبان في دولتهم وعلى أرضهم في أوائل القرن العشرين، فقد ظل هذا الحرمان للألبان مصدرا لعدم الاستقرار في البلقان وفي أوروبا.