مازن حماد

من المحرج للغاية أن تكتشف دولة بحجم المملكة المتحدة أنها كانت آخر من يعلم بما جرى ذات يوم على أراضيها، وفي أجوائها. ومن المحرج أكثر أن هذا الذي جرى مضت عليه ست سنوات ولم يخرج إلى العلن إلا منذ أيام. ومن المحرج أكثر وأكثر أن تشعر لندن أنها كانت طوال ذلك الوقت مضللة ومكذوبا عليها من حليفتها الأكبر الولايات المتحدة الأميركية.

- - القضية التي نحن بصددها قد تبدو بسيطة في ظاهرها، ذلك أنها تتعلق باثنين من معتقلي غوانتانامو، لم يعرف إلا مؤخرا أنهما نقلا من المعتقل في رحلتين سريتين عبر جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، حيث هبطت الطائرتان عام laquo;2002raquo; في الجزيرة الخاضعة للتاج البريطاني للتزود بالوقود، قبل مواصلة رحلتها إلى واحدة أو أكثر من دول تستضيف مراكز اعتقال تجرى فيها عمليات تعذيب محرمة دوليا، لانتزاع اعترافات من المشتبه فيهم.

- - عمليات التعذيب هذه تعتبرها الولايات المتحدة قانونية، مادام الهدف منها الحصول على معلومات يمكن أن تفضي- كما تقول- إلى اعتقال إرهابيين، أو منع وقوع هجمات إرهابية، لكن بريطانيا تعتبرها غير شرعية، وغير أخلاقية. ومن هنا فإننا نعتقد أن واشنطن تعمدت إخفاء الحقائق عن لندن تحت ستار أنها ليست ملزمة بمقتضى عقد استئجار قاعدتها الجوية الضخمة، في دييغو غارسيا، بإبلاغ بريطانيا بحمولات طائراتها، ومن هنا فإننا نعتقد أيضا أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس كذبت عندما أبلغت نظيرها البريطاني ديفيد ميليباند بأن التأخر في الإبلاغ ست سنوات يعود إلى laquo;خطأ تسجيليraquo;.

- - وفي بيانه الساخط على الأميركيين قال ميليباند لمجلس العموم، إنه رغم طلبات لندن المتكررة لواشنطن لتزويدها بمعلومات حول laquo;رحلات التعذيبraquo; المخصصة لمعتقلي غوانتانامو، فإن الحكومة لم تحصل سوى الآن على تأكيدات أميركية بنقل اثنين من المعتقلين عبر الأراضي البريطانية. وعلى ضوء الإنكار الأميركي المتواصل لحصول عمليات النقل هذه، وقف جاك سترو وزير الخارجية السابق أمام مجلس العموم نافيا وجود أي حالات استخدمت فيها الأجواء أو الأراضي البريطانية في رحلات التعذيب الأميركية. وفي أواخر العام الماضي أبلغ رئيس الوزراء توني بلير لجنة الاستخبارات والأمن النيابية أنه لم يتم نقل أي فرد بهذه الطريقة، عبر أجواء المملكة المتحدة أو أراضيها في الخارج، منذ أحداث سبتمبر عام 2001.

- - غير أن استجوابا مباشرا لأطقم طائرات تابعة للمخابرات الأميركية مؤخرا أخرج السر الدفين من قبره، وخلق أزمة دبلوماسية بين الحليفين، لكن الأهم من تلك الأزمة القابلة للتجاوز- بالطبع- أن المواطن البريطاني أصبح ميالا إلى عدم تصديق أي تأكيدات تأتي من الولايات المتحدة. فمن يضمن ألا تكون دييغو غارسيا قد استخدمت مائة مرة لا مرتين فقط؟ وكيف يمكن للحكومة البريطانية أن تفقد رقابتها على أراضيها إلى هذا الحد؟

- - هذه القضية الصغيرة، هي في ملخصها مجرد صفحة في كتاب الأضاليل الأميركية، التي اتبعت في الحرب على الإرهاب، وكذلك في الحرب على كل من أفغانستان والعراق. وتكمن أهميتها أيضا في أن الكذب لا يقتصر على الأعداء بل يمكن أن يشمل الحلفاء المقربين أيضا.