سيار الجميل
لقد مّرت مرحلة هدوء بعد تلك الحرب الأهلية الدموية التي عانى منها شعب كوسوفو، ولم تجف دماء الآلاف المؤلفة من الذين سقطوا مقاتلين أم مغدورين على أيدي الصربيين، إنني اخشى أن تكون مباركة الولايات المتحدة بانفصال كوسوفو ودعمه هو استعادة جديدة لمشروع الحرب، وهل غدا الأميركيون بحريصين على كوسوفو وأهلها الطيبين الذين عانوا من الصرب طويلا، كي يعترفوا لهم بالانفصال ؟ يبدو ان كوسوفو قد عادت ووقعت هي الأخرى في فخ المصالح الدولية التي ستأخذ أبعادا كبرى في منطقة الشرق الأدنى.
إن الغضب الذي يعم صربيا اليوم سوف لا توقفه أبدا تصريحات الساسة الأميركان.. وإذا كان العالم يرغب في ان يسود السلام بانفصال كوسوفو، فأنني أرى بالرغم من خصوصية كوسوفو تاريخيا وجغرافيا وسكانيا، فان ذلك سيعيد فتح النار من جديد وسيشعل الحرب مع الصرب من جديد.
وقد أعلنت روسيا عن موقفها الذي لا اعتقد أنها ستترجمه دباباتها على الأرض باكتساح كوسوفو إن أصرت على انفصالها، ربما سيجد أهل كوسوفو أنفسهم أحرارا في إقليمهم الذي لم ينفصل يوما، ولكنهم سيدفعون ثمنا غاليا جدا إزاء الصرب الذين رفضوا انسلاخ كوسوفو رفضا تاما ، علما بأنها كانت ولم تزل تحت حماية دولية. وأن بعض المسؤولين الأميركيين يشاركون بلغراد مخاوفها في طبيعة الإجراءات الأمنية.
أعلن هاشم تاجي رئيس وزراء إقليم كوسوفو أمام برلمان بلاده، استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا فجأة، ونال ذلك إجماع البرلمان كدولة يوم 17 فبراير 2008 وإعلان بريشتينا عاصمة لها بعد ان بقيت كوسوفو جزءا من صربيا، إن مشكلتها قديمة لا تشابهها مشكلات أخرى، والإقليم محصور ومحشور بين مقدونيا وصربيا والجبل الأسود وألبانيا.
يبلغ عدد سكانه مليونين وثلاثمئة ألف نسمة. وتبلغ مساحته 10، 577 كم2 ونسبة المسلمين 90% هم من الألبانيين و5% صرب و5% قوميات أخرى، وبالرغم من التأييد الذي حظي به مشروع الاستقلال من قبل دول شمال الأطلسي والغرب، إلا أن هناك من عارضه بشدة متناهية وروسيا في مقدمتهم. ويبدو واضحا ان الخطة أميركية صرفة بدليل أنها ترجمت وعود الرئيس بوش للألبان بمنح حق الاستقلال لكوسوفو التي تحميها قوة دولية قوامها 16 ألف مقاتل، تواصل حفظها للأمن في الإقليم. ورحب الاتحاد الأوروبي أيضا بالانفصال ووعد بإرسال تعزيزات.
لقد فتح انفصال كوسوفو الباب أمام أقاليم أخرى، وكان مبعثا للمطالبة بانفصال أبخازيا وأوستينيا الجنوبية عن جورجيا في القوقاز.. ان ملف كوسوفو سيغدو بداية تاريخية لانفصالات أقاليم عدة تطالب بالانفصال وتشكيل دويلات على أسس عرقية وقومية وربما دينية وطائفية، ويقال أن عددها يتجاوز المئتين في جميع أنحاء العالم ضمن بوصلة قواعد اللعبة الدولية الجديدة. ولكن ما قصة كوسوفو ؟
قوصوه الاسم العثماني القديم لاقليم كوسوفو الاسم الصربي لكوسوفا الاسم الألباني، كان جزءا عثمانيا لخمسة قرون مضت ومنذ العام 1389 حتى بدايات القرن العشرين عندما أصبح الإقليم جزءا من صربيا، وبعد الحرب العالمية الثانية، غدا بالضرورة جزءا من يوغسلافيا، ومنح حكما ذاتيا وفق دستور 1947 بقيادة جوزيف بروز تيتو حتى إلغائه من قبل سلوبودان ميلو سوفيتش الذي حكمه بالحديد والنار.
وخاض النضال حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني بقيادة إبراهيم روغوفا وهو مثقف واستاذ جامعي وبأسلوب سلمي. وفي العام 1990 جرى استفتاء لأهالي كوسوفو الذين اقروا الانفصال بإعلان جمهورية مستقلة، وفي 24 مايو 1992 أنتخب الألبان إبراهيم روغوفا رئيساً لجمهوريتهم التي أطلقوا عليها اسم جمهورية كوسوفو ولم تعترف بها صربيا ، حاول إبراهيم روغوفا المعروف بنهجه السلمي كسب تعاطف المجتمع الدولي ونيل اعترافه بجمهورية كوسوفو لكنه لم ينجح فكون الشباب الألباني خلايا عسكرية سموها جيش تحرير كوسوفو.
كان عام 1998 قد لفت أنظار العالم بقوة إلى خطورة الأوضاع في كوسوفو حيث دخل جيش تحرير كوسوفو في صراع مع الجيش الصربي، فقام الأخير بارتكاب مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك. وفي مارس 1999 شن حلف شمال الأطلسي غارات جوية على صربيا، فأرغم ميلوسيفيتش على الانسحاب من كوسوفو. وفقدت بلغراد السيطرة الفعلية على الإقليم الذي وضع تحت حماية الأمم المتحدة والحلف الأطلسي الذي ينشر نحو 17 ألف عسكري فيه.
وجرت مفاوضات حول الوضع النهائي لكوسوفو بين الصرب والكوسوفيين الألبان قدم في ختامها مارتي اهتيساري الذي كلفته الأمم المتحدة إعداد وضع نهائي للإقليم خطة تقضي باستقلاله تحت إشراف دولي دعمها الأميركيون ومعظم الأوروبيين.
هنا ينبغي إثارة عدة أسئلة يمكننا ان نطرحها حول مستقبل الإقليم الذي يأتي انفصاله في مرحلة تاريخية صعبة تتهيأ فيها الشعوب للانفصالات، وإذا كان الإقليم بمليوني شخص قد استقل وربما مشروعية الانفصال قائمة، ولكن كيف ستكون له مقومات الحياة كدولة مستقلة ؟ هل يضمن الأوروبيون بقاء كوسوفو جمهورية هادئة وهي تضم غالبية شعب مسلم، فهي الدولة الإسلامية الوحيدة في أوروبا، فكيف قبل الاتحاد الأوروبي ولادة هذا الكيان؟.
ما موقف الصرب الذي ترجموه بمعارضة شديدة ؟ ما موقف العالم الإسلامي من استقلال كوسوفو ؟ وهل سيكون ذلك بداية حقيقية لنشوء حقبة تاريخية يتمزّق فيها العالم إلى دويلات صغيرة وفقيرة ومغلقة ليس لصالح العالم الإسلامي، بل لصالح الولايات المتحدة الأميركية ؟
من يضمن عدم ولادة صراعات جديدة بانسحاب القوات الدولية عن الإقليم ؟ خصوصا إذا علمنا بأن استقرار الأوضاع على امتداد عشر سنوات مضت كانت مرتهنة بوجود قوات دولية.. وأخيرا، إذا كان إقليم كوسوفو فقيرا جدا، فمن سيعيله ؟ هل سيغدو عالة على العالم الإسلامي، أو يصبح بؤرة مافيوية في جنوبي أوروبا ؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة. وهل ترى أوروبا في كوسوفو استقلالا أم اضمحلالا ؟
التعليقات