سليمان الهتلان

كتبتها وقلتها كثيراً: مشكلة الكاتب والمثقف في بعض البلدان العربية مع الرقابة الرسمية تظل أسهل كثيراً من مشكلته مع أنواع أخرى من الرقابة مثل رقابة المجتمع أو ـ وتلك الأسوأ ـ الرقابة الذاتية التي تكبل العقل والقلم بالخوف من كل المحاذير.

كيف لأمة أن تتقدم وعقول أبنائها محاصرة بكل أشكال الرقابة والمحاذير والخوف حتى من التفكير؟ ألم ترفع بعض المؤسسات الرسمية في العالم العربي شعارات من مثل: laquo;لا تفكر.. نحن نفكر عنكraquo;؟ ولهذا يأتي تحرير العقل في العالم العربي خطوة ضرورية وأساسية لأي مشروع حضاري خاصة وأن العالم اليوم يشرع أبوابه أمام الأفكار الجديدة والخلاقة والمنافسة في عالمنا المعاصر تقوم أساساً على الإبداع والتفكير الحر.

واحدة من الخطوات المهمة لأي مشروع تنموي وحضاري هي القناعة بمفهوم laquo;النقد الذاتيraquo; كقيمة إنسانية وحضارية ترتقي بالفرد ـ والمجتمع ـ وتفتح الأبواب أمامه لإدراك حقيقة واقعه وبالتالي معالجة أخطائه. ومن دون النقد ونقد الذات تكبر المشكلات وتتكاثر وينمو الوهم ويسيطر فلا نستيقظ إلا عند الكوارث وغالباً ما يكون الوقت حينها متأخراً أو laquo;بعد خراب مالطاraquo;!

من هنا يأتي مهماً أن نحتفي بالكلمة المهمة التي ألقاها الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال افتتاحه ـ قبل أيام ـ أعمال السنة الرابعة من الدورة الرابعة لمجلس الشورى السعودي لأنها ـ من ضمن ما تعبر عنه ـ تأتي تأكيداً على تبني القيادة السياسية العليا في المملكة لمفهوم النقد ونقد الذات.
يقول الملك عبد الله في كلمته: laquo;يشهد الله تعالى أنني ما ترددت يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة، كل ذلك خشيةً من أمانة أحملها، هي قدري وهي مسؤوليتي أمام الله - جل جلاله - ولكن رحمته تعالى واسعة فمنها استمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها، وتلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادف قادرة ـ بإذن الله ـ أن تجعل من ذلك قوة تسقط باطلاً وتُعلي حقاًraquo;.

فإذا كان قائد في مكانة الملك عبد الله، وهو المشهود له برغبته في الإصلاح والتغيير البنّاء، يعلنها علناً وأمام العالم كله بأنه لم يتردد يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسه إلى حد القسوة المرهقة إيماناً بأن النقد مسؤولية وطريق مهم للبناء فما الذي يمنع بقية المسؤولين، من وزراء ورؤساء شركات وغيرهم، من تبني مفهوم النقد وممارسته؟ وما الذي يغضب البعض من بعض المحاولات المحدودة لممارسة شيء من النقد خاصة عبر وسائل الإعلام التي يفترض فيها أن تكون أداة فاعلة من أدوات التعبير الحر والنقد الجريء والمسؤول؟

في اليوم التالي لكلمة الملك عبد الله، وتحديداً يوم الأحد 16 مارس، كتب الزميل جمال خاشقجي، رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية، تعليقاً على الكلمة الملكية بعنوان laquo;إنه ربيع الكلمة من جديدraquo;. وضرب الكاتب أمثلة مهمة لجهود الملك السعودي من أجل الاعتراف ببعض المشكلات الصعبة مثل الفقر في السعودية.
هكذا تأتي كلمة الملك كدعوة صادقة من رجل صادق لممارسة النقد والكشف عن مشكلات المجتمع وقضاياه. هكذا قرأ الأستاذ جمال كلمة الملك عبد الله وهكذا قرأتها أنا. إن القائد الواثق من نفسه ومن نواياه ورؤيته لا يخشى النقد بل يؤمن به كقيمة حضارية ستسهم عاجلاً أو آجلاً في تحقيق الإصلاح والإنجاز.
وهكذا تدشن كلمة الملك عبد الله، كما كتب الأستاذ جمال خاشقجي، مرحلة جديدة ومهمة لربيع الكلمة الحرة في السعودية برؤية ناقدة ومسؤولة تهدف ـ في الأصل ـ لكشف مواطن القصور ودعم مشاريع البناء والنماء. والذين يريدون فرض الرقابة من جديد على العقول والأقلام إنما يؤكدون أنهم مازالوا يعيشون اليوم في زمن غير زماننا لأنهم ـ فيما يبدو ـ ما زالوا عالقين في laquo;الأمسraquo; يوم كان بالإمكان احتكار منافذ الضوء وممارسة الرقابة البليدة بالمقص والمنع والتقريع.
إننا اليوم عملياً أمام حقائق جديدة ومختلفة فعصر العولمة الإعلامية الذي نشهده الآن يتيح خيارات وبدائل للتواصل ليس فقط على المستوى المحلي ولكن على المستوى العالمي، وفضاء التقنية الإعلامية المعاصرة لا يعترف بحدود ولا بمقص رقيب.
وكلما تباطأنا في تنفيذ مشاريع تنموية إصلاحية، على مستويات التعليم والإعلام خاصة، كلما زادت الفجوة بين بلادنا والعالم وكلما زاد تعقيد مشكلاتنا وأزماتنا. لا يكفي أن نتوقف عن السير laquo;عكس التيارraquo; بل يجب أن نحث الخطى للحاق بمن سبقنا، حتى في بلدان الجوار القريبة، نحو العلم والتقنية والبحوث والمشاركة الجادة في المتاح عالمياً من فرص وأفكار وإبداع.
إن بناء الإنسان الواثق من نفسه والمنفتح على العالم بوعي وثقة هو الخطوة الأساسية لأي تنمية أو مشروع حضاري. ولكن كيف لإنسان متردد ومكبل بأشكال مختلفة من العقد والخوف أن ينطلق بحرية نحو المستقبل؟ كيف لهذا الإنسان أن يحلق في فضاءات الإبداع الجديدة أو أن ينافس على المستوى العالمي وهو لا يقوى على نقد أبسط أوضاعه ويخشى حتى من الإشارة إلى حفرة عميقة في الشارع أمامه؟ لا تنمية حقيقية من دون حرية حقيقية.
يقول الملك عبد الله في كلمته: laquo;الحرية تكون في التفكير والنقد الهادف المتزن، والمسؤولية أمانة لا مزايدة فيها ولا مكابرة عليها، فيها نصون حريتنا، ونحدد معالمها، ونقول للعالم هذه قيمنا وتلك مكارم أخلاقنا التي نستمدها من دينناraquo;.
وفي تلك الكلمات تأكيد صريح على الحقيقة الأزلية: لا نهضة حقيقية من دون حرية مسؤولة وحقيقية. ولا تنمية إنسانية من دون حرية صادقة في التفكير والتعبير والحركة. أما وقد بدأها الملك القدير نفسه، هل نشرع الأبواب أمام مشروع حقيقي لممارسة النقد البناء وتدريب أنفسنا ومجتمعنا على تبني قيمة laquo;نقد الذاتraquo; وتطبيقه؟ هنا التحدي!