عدنان السيد حسين

laquo;العدوان الإسرائيلي على غزة فصل من مأساة أكبر، والقذائف تلتهم الحياة في غزة، والمستوطنات تلتهم الأرض في الضفة الغربية، والمفاوضات الفارغة التي شاهدناها كان المقصود منها أن تلتهم الوقت أيضاً..raquo;.

هذ التعبير العميق هو لأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، ويعكس معاناة الإنسان الفلسطيني، وكل إنسان عربي في هذه المرحلة. إنه كلام واقعي، ولا نخال أمين عام الجامعة كان متطرفاً أو مغالياً في ما يقول.

قد يُقال، جاء هذا الخطاب على وقع مأساة غزة في افتتاح المؤتمر الطارئ لوزراء الخارجية العرب في القاهرة منذ أيام. يمكن والحال هذه أن تقفز العاطفة إلى مقدمة التعبير الإنساني، بيد أن الخطاب المذكور يحتاج إلى وقفة موضوعية بعيداً عن التحزّب والتطرّف والغلو. وقفة فكرية وسياسية فيها من العمق والتبصّر ما يخفف معاناة فلسطين وأهلها، وما يعيد الاعتبار للنظام الإقليمي العربي الذي ترنّح منذ كامب ديفيد المصرية-الإسرائيلية سنة 1978، وتفكك مع الغزو العراقي للكويت في صيف العام 1990.

نعم، مأساة غزة فصل من مأساة أكبر، إنها مأساة فلسطين التي تُعتبر أخطر قضية إنسانية في العصر الحديث. هذه ليست مبالغة، فالعلاقات الدولية لم تشهد اغتيال قضية شعب وأرض كما شهدت أرض فلسطين، التي احتضنت كنيسة القيامة والمسجد الأقصى منذ آلاف السنين!

في هذه الأرض، تصارعت إرادات دولية وإقليمية، لذلك هي جزء أيضاً من مأساة النظام العالمي. النظام غير العادل، وغير المتكافئ بين الأمم والشعوب. وعلى هذه الأرض دارت معارك عسكرية وغير عسكرية، وأُطلقت وعود دولية بالحل، أو بالتسوية. فلا الحل تحقق، ولا التسوية العادلة تحققت، وجميع المراقبين الدوليين دخلوا بنسب متفاوتة في حالة يأس، وباتوا في حذر من الدخول في تفاصيل تسوية مملّة لم تتحقق!

وحتى لا يكون كلامنا أيديولوجياً، أو قاطعاً في تقييم موقف. نعود إلى أمين عام جامعة الدول العربية مشخصاً حقيقة الدور العربي تجاه هذه المأساة. يقول:

laquo; إن ضياع الدور العربي وتناثره، وضعف الموقف العربي واهتراؤه، وانقسام الصف الفلسطيني وتبعثره، أدّت كلها إلى سياسة التجرؤ على العرب، سياسة تقوم على الاستخفاف والاستغلال.. إسرائيل أصبحت تتعامل مع العرب وفق المثل المصري القائل: laquo;اللي تعرف ديّته اقتله..raquo;. نعم، بات العرب، كل العرب، في وضعٍ مزرٍ منذ أن تفرقوا شيعاً وقبائل بعيداً عن مفهوم الشعب، ومحددات الدولة الحديثة.

الخطأ الأكبر

في رأينا إن الخطأ الأكبر حيال قضية فلسطين كان انحدارها إلى قضية ثانوية. فلا هي قضية العرب الأولى، ولا هي القضية المركزية. وما البيانات الصادرة عن جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، حول تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحرير القدس laquo;أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفينraquo;... سوى ألفاظ لم تتحول إلى فعل سياسي في المجتمع الدولي!

لم يتنبّه النظام العربي الرسمي إلى أن قضية فلسطين هي جوهر الأمن العربي، وتالياً الأمن الشرق أوسطي. أمن بلاد الشام مرتبط بها، وكذلك أمن الخليج، وأمن وادي النيل وشمال أفريقيا. هذا ليس تشريعاً جيوبوليتيكياً بقدر ما هو حقيقة الجغرافيا السياسية، وحقيقة تصنيف المنطقة العربية في السياسة الدولية منذ أن طُرحت المسألة الشرقية بين العثمانيين والغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر. والسؤال الكبير والخطير في هذه المرحلة: أين هو الأمن العربي؟ أمن الدفاع عن الأرض والمقدسات، وأمن المياه، وأمن الاقتصاد،وأمن الاجتماع، وأمن التقنية الحديثة... لم يعد الأمن مجرد جيش مسلّح وحسب، هذا جزء بسيط من مفهوم الأمن في عالم اليوم.

كيف نعالج هذا الواقع المرير؟ يجيب السيد عمرو موسى:

laquo;لا بد من إعادة تقدير الموقف برمته، وتقييم الموقف العربي بشكل جماعي ورصين ومحترم.. المرحلة الزمنية الحالية تختلف جذرياً عن المراحل السابقة، وتتطلب من الجانب العربي ممارسة وفكراً مختلفين، وتحتاج إلى أساليب وسياسات فاعلة، وهي تتطلب تقديراً سليماً للأمور مع الثبات على المبدأ، والإصرار على تحقيق العدالة والموضوعية في حل المشكلات القائمة، وعلى رأسها قضية فلسطين.. مقاومة المحتل أحد هذه الثوابت، والحياة الدولية مثل الحياة الفردية، من يحترم فيها نفسه يُحترم، ومن يَهُنْ يسهل الهوان عليهraquo;.

انطلاقاً من ذلك، علينا أن نتيقّن بأن المجموعة العربية معنيّة بالتأسيس لأمن عربي جماعي. هذا لا يعني بأن القوي يسيطر على الضعيف، وأن الفقير يجب أن يصادر مال الغني.. الحل هو بالتكامل، وحسبنا الإفادة في هذا الصدد من التجربة الأوروبية، والتجارب الآسيوية والأميركية... عالم اليوم ليس عالم الدولة المفردة الواحدة، إنه عالم الكتل الدولية والإقليمية الكبرى.

في عصر العولمة، لا بد من التفكير بهذا المنطلق، على الرغم من الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب العالم كله في العام 2009، والتي تحتاج إلى تضافر الجهود الدولية لمعالجتها بعيداً عن سياسة الاستئثار بالموارد والثروات.

أين هو مكاننا نحن العرب في معالجة هذه الأزمة؟ لا بد من الاستعانة بخبراء المال والاقتصاد.

مهمة عربية

اما مقاومة الاحتلال فإنها مهمة عربية، قبل أن تكون إيرانية أو تركية، إنها مهمة أبناء القضية. إسرائيل هي التي احتلت الأرض، وشردّت الشعب، وهدّدت الأمن. أما الجوار الإقليمي للعرب فله مصالح، أين مصالحنا نحن على قاعدة حسن الجوار؟

هذا كله يعيدنا إلى سؤال كبير: كيف نؤسس لنظام إقليمي عربي جديد؟ ومتى؟

إذا اقتنعنا بأن النظام الإقليمي ضرورة، أي نظام العلاقات المتبادلة، في الأمن والاقتصاد والاجتماع والثقافة... يمكن أن نصوغ سياسات رشيدة، بعيداً عن الفردية والطائفية والعشائرية، والإقليمية الجهوية. كيف نُقنع صنّاع القرار العربي بهذه المسألة؟

الجواب لا يكمن في الغضب، والتحطيم، والانقلاب على ما هو قائم، بقدر ما هو في التطوير والتحديث، في القضاء على الأمية أولاً، وفي الإفادة من تقنية العصر ومعارفه، وفي الانفتاح على أصدقائنا في هذا العالم على قاعدة المصالح المتبادلة.