The Washington Post

طوال أكثر من ثلاثة عقود، عمل الرجل الأسود يوجين آلن في البيت الأبيض، ولم تكترث له وسائل الإعلام يوماً. خلال عدد من تلك السنوات، كانت البلاد خاضعة لقوانين تفرقة مجحفة.

في البيت الأبيض، عمل آلن قرب الصحون الوسخة لا الطاولة الضخمة في المكتب الرئاسي. لكن زوجته هيلين لا تأبه بذلك. فهي فخورة به... اعتاد الرئيس ترومان دعوته جيني. أما الرئيس فورد، فقد أحب أن يلعب معه الغولف.

شهد آلن تعاقب ثماني إدارات رئاسية على البيت الأبيض. كان يعمل ستة أيام أسبوعياً. وهو، كما يؤكد، laquo;لم يتغيب يوماً عن العملraquo;.

قصة آلن إحدى تلك القصص التي تبقى على هامش التاريخ، لأنه في النهاية شخص يعمل في المطبخ.

كان آلن يعمل في البيت الأبيض عندما أعيدت صياغة التاريخ العرقي الأميركي: قضية براون ضد المجلس التعليمي، أزمة مدرسة ليتل روك، مسيرة عام 1963 إلى واشنطن، الحرائق في المدن، قوانين الحقوق المدنية، والاغتيالات... عندما بدأ العمل في البيت الأبيض عام 1952، ما كان يُسمح له حتى باستخدام الحمامات العامة عندما كان يعود إلى موطنه فرجينيا. يتذكر آلن (89 عاماً) حياة الأميركيين السود آنذاك: laquo;لم نكن نملك شيئاً البتة. وطالما أملتُ بأن تتحسن الأوضاعraquo;.

خلال تاريخ الولايات المتحدة، جمعت بين البيت الأبيض والأميركيين السود علاقة معقّدة ومضطربة. يقول تيد سورنسن، أحد مستشاري الرئيس كينيدي: laquo;لم تكن الفوارق العرقية واضحة في المطبخ. لطالما كان الخدم، وحتى العاملين على الباب، سوداًraquo;.

حاول سورنسن التطرّق إلى مسألة السود في البيت الأبيض في عهد كينيدي، لكن لم يبقَ سوى رجل أسود في فريق العمل التنفيذي في هذا البيت. يوضح سورنسن في هذا المجال: laquo;كان عدد السود في البيت الأبيض أقل من اللازم. فلم يتوافر الوعي الكافي بشأن هذا الموضوعraquo;.

باب موصد

عام 1866، شعر الناشط في مجال مكافحة العبودية فريديريك دوغلاس، بإمكان الترويج لإعطاء السود حق التصويت. لذلك زار البيت الأبيض للقاء الرئيس أندرو جونسون وطلب مساعدته. لكن الأخير رفض خوض صراع بغية منح السود هذا الحق. عاد دوغلاس إلى البيت الأبيض عام 1877 ولم يرغب أحد في مناقشة أفكاره السياسية، لكن الرئيس روثرفورد هايز استبقى هذا الرجل العظيم ليمتّع المدعوّين في جلسة ترفيه مسائية.

في خريف عام 1901، طرق باب البيت الأبيض رجل آخر يتحدر من أصول أفريقية. فقد دعا ثيودور روزفلت مؤسس معهد تسكيجي بوكر ت. واشنطن، لمقابلته في البيت الأبيض. حرص روزفلت على عدم إعلان هذه الدعوة، مخافة إثارة حفيظة البعض، خصوصاً الجنوبيين، لكن أخبار هذه الزيارة تسربت بسرعة. فعلت الأصوات فوراً منددة بهذه الزيارة.

كتبت صحيفة Memphis Scimitar في إحدى افتتاحياتها بلغة اعتُبرت مهينة آنذاك: laquo;تفاخر الرئيس روزفلت بأن والدته جنوبية وأنه بالتالي نصف جنوبي، لكنه يقلل من احترام أمّه حين يدعو زنجياً إلى مائدته!raquo;.

بعد مرور 50 عاماً، عندما منعت منظمة laquo;بنات الثورة الأميركيةraquo; عازفة البيانو هايزل سكوت من العزف في قاعة الدستور بسبب عرقها، انهمرت الرسائل على البيت الأبيض داعمة موقف هذه المنظمة. كانت السيدة الأولى بيث ترومان من المشاركات في هذه المنظمة، بيد أنها بذلت مجهوداً كبيراً لتدفعها إلى تغيير سياستها. على الرغم من ذلك، لقّب زوج سكوت، عضو الكونغرس آدم كلايتون باول، بيث ترومان بـ laquo;آخر سيدة في البلادraquo;. أغضب هذا الوصف الرئيس ترومان، وأقسم أمام مساعديه أنه سيعاقب باول، فمنعه من دخول البيت الأبيض خلال عهده.

كان إي. فريدريك مورو، مدير علاقات عامة سابق في شبكة CBS، أول شخص أسود يتبوأ منصباً سياسياً في البيت الأبيض. أسر مورو منظّمي حملة الجنرال دوايت أيزنهاور الانتخابية بعمله الدؤوب خلال حملة عام 1952، حتى أنهم وعدوه بمنصب تنفيذي في البيت الأبيض في حال فاز أيزنهاور. وهذا ما حدث فعلاً. عينوا مورو في وزارة التجارة. فشعر أنهم يستخفون به ودعا أصدقاءه الجمهوريين في نيويورك إلى إرغام البيت الأبيض على الوفاء بوعده.

عام 1955، عُين مورو المسؤول الإداري عن المشاريع الخاصة، وأمل بأن يمنحه هذا المنصب مسؤوليات أوسع في البيت الأبيض، لكنه وجد نفسه مضطراً إلى التعامل مع مسائل تتعلق بالحكم المناهض للتمييز العرقي في قضية براون ومقاطعة الباصات التي قادتها روزا باركس في مونتيغامري في ألاباما وأزمة مدرسة ليتل روك عام 1957.

عن مورو يقول ستيفن هس (عضو متقاعد في معهد بروكينغز كان يكتب خطابات أيزنهاور): laquo;تمتع بعزة نفس كبيرةraquo;. وجد مورو نفسه وحيداً في منصبه هذا. لكنه laquo;لم يشتكِ. فهذا ليس من شيمهraquo;، على حدّ تعبير هس.

عندما ترك مورو منصبه في البيت الأبيض، ظنّ أنه سيتلقى عروض عمل من شركات كبرى، لكنّ ظنّه خاب. يوضح هس: laquo;لم يتلقَّ سوى عروض عمل من مجتمع السودraquo;. على الرغم من ذلك، laquo;صار تعيين شخص أسود بين موظفي البيت الأبيض أمراً مقبولاً بعد موروraquo;.

الخادم

قبل أن يحظى آلن بوظيفة في البيت الأبيض، عمل نادلاً في منتجع هومستيد في منطقة هوت سبرينغز في فرجينيا ومن ثم في النادي الريفي في واشنطن.

خلال هذه المقابلة، كان هو وزوجته هيلين (86 عاماً) في غرفة الجلوس في منزلهما في جادة جورج في شمال غرب واشنطن. وضعت هيلين عكازاً في حرجها. وبدا صوتها موسيقياً شبيهاً بصوت لينا هورن. التقيا في واشنطن في حفلة عام 1942. كان آلن خجولاً جداً ولم يطلب رقم هاتفها، فبحثت هي عن رقمه، وتزوجا بعد سنة.

عام 1952، أخبرته إحدى السيدات عن وظيفة شاغرة في البيت الأبيض. يقول آلن في هذا السياق: laquo;لم أكن أبحث عن عمل، لأني كنت سعيداً في عملي السابق. لكن السيدة قالت لي أن أذهب إلى البيت الأبيض وألتقي برجل يُدعى ألونزو فيلدزraquo;. كان الأخير كبير الندلاء وأعجب بآلن حالاً.

عُرضت على آلن وظيفة خادم. وشمل عمله غسل الصحون وتوضيب الأواني وتلميع الفضية منها، وكان يتقاضى 2400 دولار سنوياً.

بمرور الوقت حصل آلن على ترقية وأصبح رئيس الخدم: laquo;صافحت الرؤساء الذين عملت عندهم كلهمraquo;.

وتذكّره هيلين: laquo;كنت برفقتك يا عزيزي، ربما في الخلف. لكنني صافحتهم أنا أيضاًraquo;. تقصد هيلين بكلماتها تلك الحفلات التي يقيمها البيت الأبيض بمناسبة الأعياد وسباق البحث عن بيض عيد الفصح.

رزق آلن وهيلين بولد يُدعى تشارلز، وهو يعمل محققاً في وزارة الخارجية. يروي آلن: laquo;صادف عيد مولدي وعيد مولد الرئيس فورد في اليوم نفسه. اعتاد الرئيس أن يقيم حفلة في البيت الأبيض يحضرها الجميع. فتقول السيدة فورد: إنه عيد مولد يوجين آلن أيضاً. فيبدأون بإنشاد أغنية صغيرة لرئيس الخدم، فتعلو وجهي حمرة الخجلraquo;. وحول الرئيس كينيدي وزوجته يقول آلن: laquo;كان جاك كينيدي لطيفاً جداً، وكذلك السيدة كينيديraquo;.

كان آلن في مطبخ البيت الأبيض يوم مقتل جون كينيدي. وحظي بدعوة خاصة إلى جنازته، لكنه تطوّع لأداء واجب آخر: laquo;كان لا بد من بقاء أحد في البيت الأبيض ليستقبل الجميع عند عودتهم من الجنازةraquo;.

وحول عائلة الرئيس جيمي كارتر تقول هيلين مبتسمة: laquo;كانتا ريفيتين، أقصد ليليان وروزالينraquo;. بدا وصفها هذا أشبه بثناء كبير.

أتت السيدة الأولى نانسي ريغان ذات يوم لتبحث عن آلن في المطبخ. أرادت تذكيره بالعشاء الرسمي الذي سيُقام على شرف المستشار الألماني هيلموت كول. فأخبرها أنه أنجز قسماً كبيراً من التحضيرات وانتقى الأواني الصينية التي سيستخدمها خلال العشاء، لكنها قالت له إنه لن يعمل في تلك الليلة: laquo;قالت لي: laquo;أنت وهيلين مدعوان إلى الحفلة الرسمية التي سنقيمها أنا والرئيس ريغانraquo;. أعتقد أنني رئيس الخدم الوحيد الذي دُعي إلى مأدبة عشاء رسميةraquo;.

لا تجلس الزوجة بجوار زوجها في هذه المناسبات. لذلك شعرت هيلين بالتوتر والقلق لأنها لا تدري عما ستتحدث مع قادة العالم: laquo;قال لي ابني: ماما، تحدثي عن مدرستك الثانوية، لن يلاحظ أحد الفرق. راح أعضاء مجلس الشيوخ كافة يتحدثون عن الكليات والجامعات التي ارتادوها. فشاركت في الحديث من دون خجلraquo;.

تمييز عرقي

اختار الرئيس كينيدي، الذي خلف أيزنهاور، رجلين أسودين، فرانك ريفز وأندرو هاتشر، ليتبوآ منصبين تنفيذيين في البيت الأبيض. لكن وحده نائب وزير الإعلام السابق هاتشر، بقي في منصبه بعد ستة أشهر. أما ريفز، الذي ركّز على مسائل الحقوق المدنية، فقد ترك منصبه إثر تعديلات وزارية.

تغلغل التمييز العرقي في البيت الأبيض، رغم أن النوايا كانت حسنة في بعض المراحل. عام 1963، دعا كينيدي 800 شخص أسود إلى البيت الأبيض ليحيوا الذكرى المئوية لإعلان التحرّر من العبودية.

أدرج لويس مارتن، الموظف الديمقراطي الذي ساهم في التخطيط لهذه المناسبة، اسم الممثل سامي ديفيس جونيور وزوجته ماي بريت على لائحة المدعوّين. وعلى رغم أن البيت الأبيض شطب إسميهما، أعاد مارتن إدراجهما. يقول مارتن إن كينيدي صُدم عندما رأى هذا الرجل الأسود وزوجته البيضاء يدخلان البيت الأبيض. فاحمر وجهه وأمر المصوّرين بألا يلتقطوا أي صور لهما.

عاد ديفيس إلى البيت الأبيض خلال عهد نيكسون ليلتقي بالرئيس ويتحدث إليه بشأن فيتنام وفرص العمل المتاحة أمام السود.. وعندما غنى في المؤتمر الجمهوري في ميامي عام 1972، وضع يده حول كتفي نيكسون خلال تجمّع شبابي هناك. حتى أنه نام في غرفة نوم لينكولن ذات مرة. نتيجة لذلك، ارتبط إسمه بمرحلة من تاريخ البيت الأبيض اعتبرها سود كثر عدائية.

خصص لندون جونسون جهداً وتصميماً كبيرين للتشريعات المتعلقة بالحقوق المدنية، حتى أنه عيّن أول قاض أسود في المحكمة العليا. لكنه لم يوظف عدداً كبيراً من السود ضمن طاقم عمله. يقول كليفورد ألكسندر إنه كان الأسود الوحيد في البيت الأبيض في عهد جونسون، فعمل أولاً عضواً في مجلس الأمن القومي ثم مستشاراً في البيت الأبيض: laquo;كنا نناضل في سبيل أمر جديد. عرفنا مدى أهمية عملي وأدركنا أن الرئيس جونسون كان يناضل من أجليraquo;.

كان كولن باول أول شخص أسود يتبوأ أعلى منصب في البيت الأبيض حين عُين مستشار الرئيس ريغان للأمن القومي عام 1987. وقد حظيت كوندوليزا رايس بهذا المنصب في عهد جورج بوش الأب.

يتذكر آلن أنه رأى باول ورايس في المكتب الرئاسي. كان يقدم المرطبات. ولم يسعه إلا أن يلاحظ أن السود بدأوا يقتربون من مركز القوة وصاروا أقرب مما حلم به يوماً. فأخبر هيلين بما شعر به من فخر.

زمن التغيير

رُقّي آلن إلى منصب كبير الندلاء عام 1980. وترك البيت الأبيض عام 1986، بعد 34 عاماً من العمل هناك. فكتب له الرئيس ريغان رسالة وداع لطيفة وعانقته نانسي ريغان بقوة.

خلال هذه المقابلة، راح الزوجان يتخيلان ما يعنيه انتخاب رجل أسود ليكون رئيس الجمهورية. تقول هيلين: laquo;لا يسعني تصوّر ذلك!raquo;. أما آلن فيذكر: laquo;لا شك في أن تلك ستكون خطوة كبيرةraquo;.

تضيف هيلين: laquo;صحيح أننا تركنا البيت الأبيض منذ زمن، لكن لا أحد يعلم ما الذي قد يحدث. إذا فاز أوباما بالرئاسة، سيكون من المفرح أن نزور البيت الأبيض مجدداًraquo;.

علّق آلن صوراً للرئيس ريغان وزوجته في غرفة الجلوس، وصوراً لكل رئيس خدمه في البيت الأبيض على حائط طابق منزلهما السفلي. وثمة أيضاً لوحة أعطاه إياها الرئيس أيزنهاور وصورة للرئيس فورد وهو يفتح هدايا عيد مولده وآلن واقف بجواره.

تحدث الزوجان عن الصلاة لمساعدة باراك أوباما في الوصول إلى البيت الأبيض.

يوم الإثنين، كان من المفترض أن تزور هيلين الطبيب. استيقظ آلن وهزّها مرة ومرتين. ثم استدار إلى جهتها من السرير وهزّها مرة ثالثة، لكنها لم تفتح عينيها: laquo;استيقظت أنا، لكن زوجتي لم تستيقظraquo;. فهرع إلى نجدته بعض الأصدقاء والأقارب. أراد أن يعدّ القهوة، لكنهم طردوا رئيس الخدم من المطبخ.

دُفنت المرأة التي بقيت إلى جانبه طوال 65 عاماً. وصوّت آلن لأوباما وهو يتحرق شوقاً إلى إخبار حبيبته هيلين عن الرجل الأسود الذي تمكّن أخيراً من دخول البيت الأبيض ظافراً