عبد الباري عطوان

يلعب الاعلام دوراً فاعلاً في الحروب الحديثة، ولا نبالغ اذا قلنا انه يحتل مرتبة قريبة من الأذرع العسكرية، وهو بالقطع يتقدم على الجهود الدبلوماسية والسياسية، فالاعلامي اليوم بات يضع الاجندات السياسية، عكس ما كان عليه الحال في السابق.
فالولايات المتحدة الامريكية حشدت الاعلام الغربي جنباً الى جنب مع المدرعات والقاذفات العملاقة اثناء حربي افغانستان والعراق، ونجحت في تعبئة الرأي العام الغربي خلف اهدافها في تغيير النظامين في البلدين، من خلال حملات مكثفة من الاكاذيب والمعلومات المضللة، اشرفت على إعدادها وحدات خاصة داخل وزارة الدفاع الامريكية وباشراف مباشر من دونالد رامسفيلد شخصياً، ومن المؤسف ان 'عقولاً' عربية جرى توظيفها بكفاءة عالية في هذا الخصوص.
العدوان الاسرائيلي الحالي على قطاع غزة يعتبر الامتحان الأهم و الأخطر لاختبار مصداقية الاعلامين الغربي والعربي، ومدى تطبيق المعايير الأخلاقية والمهنية في هذا الصدد.
ولعل المثال الأبرز على اهمية الاعلام ودوره في هذه الحرب، هو إقدام السلطات الاسرائيلية على منع جميع وسائل الاعلام الغربية من دخول القطاع، والسماح لممثلي وسائل الاعلام العالمية بنصب كاميراتهم على بعد بضعة كيلومترات من حدود القطاع وداخل المناطق المسيطر عليها اسرائيلياً، وهو أمر لم يحدث اثناء الحربين الامريكيتين في العراق وافغانستان.
فالادارة الامريكية اخترعت ظاهرة جديدة غير مسبوقة في التغطية الاعلامية، من حيث السماح لمراسلي المحطات التلفزيونية والاذاعات والصحف بمرافقة قواتها، وبث ما يتم تقديمه اليهم من معلومات وصور وبيانات بعد مرورها على الرقيب المختص، ولكن حتى هذا الاسلوب الذي يعتبر تقييداً واضحاً لحرية المعلومات التي تشكل عصب القيم الديمقراطية الغربية، لم تلتزم به السلطات الاسرائيلية، ولم يتم السماح لأي صحافي غربي بمرافقة قواتها ودباباتها اثناء هجومها على قطاع غزة.

ومن المفارقة ان الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان يوصف بأكثر حكام العالم الثالث ديكتاتورية ومعاداة لحرية التعبير، سمح لكاميرات التلفزة الغربية بالعمل بحرية اثناء حربي العراق (تحرير الكويت عام 1991) واحتلال بغداد عام 2003. ومع ذلك لم نسمع الا احتجاجات باهتة من الاعلام الغربي ومؤسساته على هذه الممارسات القمعية من قبل الديمقراطية الوحيدة في المنطقة كما يزعم.
وحال الاعلام العربي لم يكن افضل، فباستثناء بعض المحطات التلفزيونية والصحف الملتزمة بالقضايا الوطنية، اتخذت وسائل إعلام محور الاعتدال العربي موقفا منحازا الى جانب الجلاد الاسرائيلي من حيث تجريم الضحية، وتحميلها مسؤولية المجازر التي يتعرض لها ابناء قطاع غزة تحت ستار الموضوعية والمهنية.
الإعلام الغربي اطلق اكذوبة المصداقية والمهنية والتوازن في التغطية الاعلامية، وصدّقها بعض الاعلاميين العرب، وباتوا يتباهون بها، ويعتبرون كل من يخرج عن هذه المعايير 'غير مهني'، او 'غوغائيا' او 'شعبويا' او كل هذه التوصيفات مجتمعة.
المهنية التي باتت سيفا مسلطا على رؤوسنا في حرب الابادة الحالية في قطاع غزة، تعني بمفهوم هؤلاء الموضوعيين اعطاء التغطية الاعلامية عن الاضرار التي تلحق ببعض المساكن في المستوطنات الاسرائيلية من جراء بعض صواريخ المقاومة، الوقت نفسه، إن لم يكن اقل، الذي يُعطى للمجازر التي ترتكبها الطائرات والمروحيات الاسرائيلية في قطاع غزة والتي وصل عدد ضحاياها الى اكثر من مئتي شهيد والفي جريح في الدقائق الثلاث الاولى من بدء العدوان.
والاخطر من كل ذلك استضافة المتحدثين العسكريين والقادة الاسرائيليين بشكل يومي، بل واكثر من مرة في اليوم للتأكيد على التوازن، وعدم تغييب الرأي الآخر، ولتجنب اي اتهام بالانحياز الى الضحايا والناطقين باسمهم.

في الاعلام الغربي، الذي بات مدرسة تفرض معاييرها على الاعلام العربي، والليبراليين العرب الجدد بوجه خاص، تتم استضافة المسؤولين العرب والفلسطينيين ولكنه 'يشويهم' بأسئلته المحرجة والاستفزازية، ولكن عندما تستضيف محطات التلفزة العربية المسؤولين او المتحدثين الاسرائيليين فانها تتعامل معهم بنعومة زائدة، وتعطيهم اكبر مساحة من الوقت لاطلاق أكاذيبهم، دون اي مقاطعة او تصحيح الا في حالات نادرة.
شمعون بيريس ظهر على قناة 'الجزيرة' الفضائية ليس للدفاع عن الجرائم الاسرائيلية، وانما لتأثيم فصائل المقاومة، وتحميلها مسؤولية مقتل واصابة الآلاف، وبلغت به الوقاحة درجة القول بان القوات الاسرائيلية لم تقتل طفلا واحدا.
صحيح ان ظهوره كشف الوجه الاسرائيلي القبيح على حقيقته لكنه اظهر في الوقت نفسه ثقة العرب بالنفس وشجاعتهم في منح العدو فرصة للتعبير عن نفسه ولاثبات لاسرائيل ان هذا الجيل الجديد من العرب لا يخشون وجهة النظر الاخرى وهذا هو ما كان يدعي الاسرائيليون والغربيون في السابق. ومن المؤسف ان هؤلاء الاسرائيليين لا يستحقون هذه المعاملة.
اما الفضائيات الاخرى التابعة لدول محور الاعتدال فقد بلغت من الانحياز للجلاد لدرجة افساح المجال ليس للاسرائيليين فقط، وانما لأصوات عربية متخصصة في العداء لثقافة المقاومة، وتحميلها مسؤولية ما حدث، لانها اطلقت صواريخ على الاسرائيليين الابرياء.

ومن يطالع الاعلام المصري الرسمي هذه الأيام، والحملات الاعلامية المكثفة التي يشنها على المقاومة وفصائلها يخرج بانطباع سريع مفاده ان هذا الاعلام يدار من تل أبيب وليس من دولة عربية قدم جيشها وشعبها آلاف الشهداء في حروب الكرامة ضد اسرائيل وعدوانها المستمر على العرب والمسلمين في مصر نفسها (مدن القناة ومدرسة بحر البقر) ولبنان والأردن وسورية وفلسطين.
فحسب كتاب هذا الاعلام يعتبر كل من يتعاطف مع قطاع غزة وضحاياه ومقاومته عدوا لمصر وأهلها وتراثها، وفي أفضل الأحوال يعتبر عميلا لايران وحزب الله وسورية والمحور الشيعي في المنطقة.
عايشت حرب الفولكلاند التي خاضتها بريطانيا ضد الأرجنتين في الثمانينات من القرن الماضي، ولم أشاهد مسؤولاً أرجنتينياً واحداً يظهر على التلفزيون البريطاني ليشرح وجهة نظر بلاده تجاه هذه الحرب. فالمهنية البريطانية لم تسمح بهذا مطلقاً، ولم تكسر هذه القاعدة إلا مرة واحدة بعد أن جرى حسم نتيجة الحرب لمصلحة السيدة مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا وزعيمة حزب المحافظين في حينه التي خاضت هذه الحرب.
وما يستحق التنويه في هذا الاطار ان الحزبين الرئيسيين في البلاد، الحكومة والمعارضة توحدا خلف القوات البريطانية، ووضعا خلافاتهما جانباً، على عكس ما نرى على الساحة الفلسطينية أولاً، والساحة العربية ثانياً، حيث تتواطأ جهات فلسطينية وحكومات عربية مع العدوان الاسرائيلي، وتستعجل حسم الحرب لصالح اسرائيل، وتستعد لاقامة سرادقات الاحتفال بنهاية ظاهرة المقاومة الوحيدة في المنطقة.
الانحياز للضحايا هو أهم قيم الاسلام، وأبرز معالم رسالته، وأهل غزة هم الضحايا الذين يقصفون بقنابل الفوسفور الأبيض والصواريخ من البر والبحر والجو. ويشرفنا أن نكون في خندقهم، نشدّ من إزرهم، ونحمل قضيتهم إلى العالم بأسره. أما الذين يساندون العدوان تحت ستار المهنية والموضوعية والتوازن فهم ليسوا منا ولسنا منهم، ولا يشرفنا أن نكون في خندقهم.