أحمد عبد الملك
صدر عن منتدى الناشرين الذي عُقد في بيروت مؤخراً بيانٌ حَوى مجموعة من التوصيات العامة؛ وتوصيات موجهة لاتحاد الناشرين العرب، تناولت قضايا النشر وأساليب الطباعة والمعايير الفنية والنفسية لطباعة الكتب. وكذلك تعزيز دور الترجمة، وتشجيع القراءة للجميع، وتيسير انتقال الكتاب بين الدول العربية، وتعزيز النشر الإلكتروني. وquot;دعوة الناشرين إلى عدم نشر الكتب غير المفيدة وتعيين لغوي متخصص لقراءة مخطوطات الكتب الآيلة للنشرquot;.
ونتوقف عند التوصية الأخيرة، وهي تشكّل لبّ إشكالية النشر في البلاد العربية، ومحورَ القطيعة التي بدأت تتعملق بين المبدع العربي والناشر.
أولاً- من خلال تجربتنا مع الناشرين -التي تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً- وجدنا أن الناشرين -الذين تعاملنا معهم- ينظرون أولاً إلى كمية مساهمتك في طباعة المخطوط، وهم بذلك يضمنون تكاليف الطباعة، ولا يعطونك مقابلاً للنشر ولا حتى نسبة من دخل الكتاب، بل quot;يتكرمونquot; عليك بمئة نسخة من كتابك و(يقبضونك الباب) يعني يقولون لك: مع السلامة. بل إنك إذا احتجت نسخاً فإنك تدفع ثمنها مثلك مثل غيرك، وبعضهم يعطيك خصماً (على كتابك)، والله عجب! ولا نريد أن نقارن هذا التصرف مع التصرف الحضاري الذي تقوم به دور النشر في الغرب، حيث تمنح المبدع مكافأة مجزية وتقوم بعملية الطباعة واختيار الغلاف والدعاية، ثم تمنح المبدع نسبة من الدخل مدى الحياة، وقد يموت المبدع وهم يدفعون له تلك النسبة! وأمام إغواء الدولار تسقط كل القيم القومية أو الثقافية التي نتداولها في منتدياتنا الثقافية أو حواراتنا مع مسؤولي النشر. ونحن -بعد إصدار 22 كتاباً- توجهنا لدار نشر معروفة في بيروت كي تتولى نشر رواية جديدة لم يتم التطرق لموضوعها أبداً؛ كونها رواية استشرافية للمستقبل في منطقة الخليج. ولأننا لم نُلمّح بأن ندفع أي مبلغ، فلقد تم الاعتذار لنا بأنهم لا يستطيعون طباعة المخطوط! على رغم جدته وجرأته وضرورته لمستقبل منطقة الخليج. وخلصتُ أن تلك الدار تشجع وتتعامل مع جنسية خليجية معينة، وأنني لم ألمّحُ لها بأنني سوف أدفع لها مقابل نشر المخطوط ثانياً؛ ذلك أنهم يفرضون على بعض الكاتبات المبتدئات أموالاً طائلة لقاء نشر quot;تهويماتquot; أو تحقيقات صحافية على أنها (روايات) ويقومون -من تلك الأموال- بالإغداق على الصحافيين والمذيعين من أجل ترويج أولئك quot;الروائيات الفذاتquot;؛ ويقومون باستضافتهن في الفضائيات والمنتديات دون أن تكون لديهن أدنى مقاربة مع أصول الرواية أو أسسها العلمية المعروفة. وهكذا تسقط الدار في quot;وحلquot; لذة جني الأموال دون تعب ودون مخاطرة، في الوقت الذي تروّجُ لكاتبات غير جديرات؛ وأعمالهن لا تستطيع إتمام قراءتها لرداءة النص. وهكذا يسقط هذا الناشر في ما حذّر منه الناشرون أنفسهم من (دعوة الناشرين إلى عدم نشر الكتب غير المفيدة)! وهذا يدعم وجهة نظرنا السابقة بأن دار النشر تضعف أمام إغراء المال وتُسقط كل قيم النشر. وهذا التصرف يفتح الباب مُشرعاً أمام مخطوطات غاية في السطحية، بل ولا تنطبق عليها الشروط الفنية أو المعايير الموضوعية. ويتم تخليق جيل من الحالمين والحالمات بالشهرة السريعة دون أن تكون لديهن الخلفية الثقافية المؤهلة لخوض غمار التأليف الروائي. كما يتم خداع الجمهور العربي -بل وتعويده على مثل تلك الأعمال السطحية كما هو الحال مع الإذاعة والتلفزيون- بأن ما تقدمه تلك الدار المشهورة هو الأفضل!
ويلهث بعض الناشرين وراء شيئين مهمين في هذا الخصوص؛ الأول (جنس المبدع) يعني الـ (Gender)؛ فهم يفضلون النساء على الرجال، ولأسباب كثيرة لا نريد حصرها هنا! الثاني جنسية (Nationality) ويربطون الرواية أيضاً باسم بلد أو مدينة، كي يزداد التشويق والإبهار؛ مهما كان الإنتاج رديئاً، وهذا أيضاً اتجاه quot;تلفزيونيquot; على غرار موضات البرامج التي تأتي من بلدان معينة! كما شجعت هذه الدور ترويجَ موضوع الجنس على أيدي بعض quot;الروائياتquot; ومن دول الخليج بالذات، بل والتعمق في الخوض في المثلية! ولا نعلم سبباً لذلك سوى أن ذاك البلد تخرج منه نساء يكشفن المستور ويجاهرن بقوة طرح الجنس كمادة رئيسية تخترق سُدلَ الشرف الرفيع! وهكذا تقوم بعض دور النشر العربية بتخليق quot;أصنامquot; ثقافية في العالم العربي، وتوهم أولئك الكاتبات بأنهن ممن يُشار إليهن بالبنان وأنهن خير من يكتب الرواية في العالم العربي! وتبدأ بعد ذلك رحلة quot;النرجسيةquot; والترويج للكتب الرديئة التي تعتمد فقط على الدعاية التي تأتي من وراء الدولار، هذا الأخضر العجيب؛ الذي يسيل له اللعاب.
ثانياً- كسباً للمال أيضاً، تقوم العديد من دور النشر بطباعة كتب التنجيم والسحر والفضائح. وتلك الكتب لا تفيد القارئ؛ قدر مساهمتها في تخليق أجواء الخيال والخوف وعدم الثقة في النفس. بل ولربما نتجت عن قراءة مثل تلك الكتب أمراضٌ نفسية لذوي النفوس الضعيفة، بما يفقدها إيمانها بالله وبالقدر، وتظل معلقة بتلك الكتب! وهذا الاتجاه في عالم النشر لا يخدم الإنسان ولا أمته ولا يعزز دور الثقافة ولا يساعد على خلق جيل قادر على التعامل مع معطيات العصر، قدر اهتمامه بالغيبيات والشعوذة وحالات الخيال التي لا تفيد.
ثالثاً- عدم اهتمام العديد من دور النشر العربية بموضوع الإعلان والترويج للكتاب. وهذا موضوع مهم لإيصال الكتاب إلى القارئ؛ والتعريف بالكاتب لعموم القراء! وكم بودنا لو يطلع الناشرون العرب على أعمال نظرائهم في الغرب، وكيف أن الرواية الواحدة تطبع ملايين النسخ، وبعدة طبعات، لكاتب واحد ربما غير معروف ويكتب لأول مرة. أما نحن في الوطن العربي، فيكتفي الناشر -بعد أن تدفع له تكاليف الطباعة- بطباعة ألفي نسخة من الرواية، وأخذها -على مضض إلى معارض الكتب في البلاد العربية. ومن واقع تجربتنا أيضاً يتردد الناشر حتى في تعليق (بوستر) -يأتي به الكاتب وعلى حسابه الخاص- في المكان المخصص للدار في المعرض. بل شهدنا حالات عدم اهتمام دور النشر بعرض الكتاب، خصوصاً عندما يكون المعرض في بلد المؤلف! حيث يتحرّج الكاتب ويقوم بتوجيه القائم على المكان بأهمية إبراز الكتاب الذي يتم حشره بصورة غير مهنية بين الكتب. إن فن العرض والإعلان ودعوة المذيعين والصحافيين لتناول الكتاب ونقده من أساسيات النشر السليم، ناهيك عن عمل البوسترات واللافتات في المولات والمكتبات العامة. وهذا كله غائب عن الناشر العربي، لأنه يفكر في الأرباح ويتجنب المصاريف.
رابعاً- نقدر توصية المؤتمر أو المنتدى حول (تعيين قارئ لغوي) للمخطوطات المراد نشرها، ذلك أن بعض الكتب تنشر بلغة غير سليمة، وبأخطاء إملائية ونحوية فادحة. علاوة على عدم تشكيل بعض الكلمات التي تحمل أكثر من مضمون في اللغة؛ وإهمال التنقيط (الفواصل، النقاط، علامات التعجب، الاستفهام، خط الحوار، التنصيص.. إلخ) وهذا يُضعف من قوة النص وبلاغته ويشتت ذهن القارئ. ونحن مع تلك التوصية المهمة، بل ونود التوضيح هنا بأهمية الحرص على النشر باللغة العربية الفصحى؛ وعدم الإنجرار وراء نشر أعمال باللهجة المحلية لأي بلد، اللهم إلا الشعر الشعبي، وهذا لا يمكن تجنبه.
وأخيراً- فإن النشر قضية أخلاقية في المقام الأول، وما لم تؤمن دار النشر بدورها في خدمة المجتمع العربي عامة؛ وبدور الثقافة في تعضيد خلق مجتمع واع ومدرك لقضاياه القومية والوطنية، فإننا سندور في حلقة مفرغة، ولسوف يزداد عددُ quot;الأصنامquot; التي تخلقها دور النشر دون مبرر على الأراضي العربية.
- آخر تحديث :
التعليقات