محمد بن هويدن

إذا كانت هناك من نتيجة يمكن أن نستخلصها مما يجري في غزة من عدوان إسرائيلي غاشم على الفلسطينيين فإنها متعلقة بحقيقة أن هناك حرباً عربيةً باردةً يدور رحاها في المنطقة العربية وأن أزمة غزة قد أججت هذه الحرب وأوصلتها إلى السطح. الحرب العربية الباردة هذه قوامها وجود حالة من التوتر في العلاقات بين البلدان العربية لاسيما تلك الرئيسية منها نتيجة لاختلاف المواقف الرسمية فيما بينها من العديد من القضايا العربية الرئيسية.

لم تكن الحرب العربية الباردة هذه وليدة اليوم بل أن جذورها قد تعود أقرب ما تكون إلى فترة الغزو العراقي للكويت في عام 1990 ووقوف بعض الدول العربية إلى جانب التحرك العسكري العراقي ضد دولة الكويت. منذ ذلك الوقت والعالم العربي لم يعرف حالة الهدوء.

بل أن شقاً عميقاً قد عصف بالنظام العربي أدى إلى نشوب حرب باردة منذ ذلك الوقت بين الدول العربية حيث برز فريق رافض للغزو والاحتلال العراقي للكويت وفريق آخر يؤيده وبين فريق كان يرفض العقوبات على نظام الرئيس العراقي الراحل وبين فريق يؤيد العقوبات ضده. هذا الأمر جعل كل فريق يتبع سياسات تختلف عن سياسات الطرف الآخر ولم تكن القضية الفلسطينية بمعزل عن كل هذا بل دخلت القضية في خضم هذه الحرب الباردة حيث انقسم العرب بين مؤيد لاتفاقيات اوسلو وبين معارض لها وبين مؤيد لانتفاضة الفلسطينيين الثانية وبين معارض لها.

ثم احتدمت الحرب الباردة العربية مع الاستعدادات الأميركية لاجتياح العراق بين أولئك الذين ينظرون إلى ذلك الاجتياح على أنه خطر يجب تفاديه من خلال تنازلات يجب أن يقدمها الرئيس العراقي الراحل وبين أولئك الذين اعتبروا أن تنازلات رئيس عربي لتهديدات أميركية هي سابقة تاريخية لا بد أن لا يتم دعمها بل الوقوف ضدها.

فجاء الاجتياح الأميركي للعراق وجاء احتلاله لذلك البلد وزاد الانقسام العربي بين الدول العربية وزادت معه الحرب الباردة بين الطرفين. ثم جاء الاجتياح العسكري الإسرائيلي لجنوب لبنان في صيف عام 2006 ليؤجج الخلاف العربي بين أولئك الذين اعتبروا بأن ما جرى من دمار للبنان كان بسبب تحرك طائش وغير مسؤول من حزب الله ومن وراءه أيادي إقليمية أخرى وأن هذا التحرك هو الذي وفر الذريعة لعدوان إسرائيلي بشع ضد ذلك البلد العربي الصغير، وبين أولئك الذين اعتبروا بأن ما حدث هو جزء من الصراع مع إسرائيل .

والذي يجب أن يستمر ولا يتوقف لأي سبب ما كان حتى تتحرر كل الأراضي العربية المحتلة من يد الكيان الصهيوني. وازدادت الحرب الباردة العربية استعاراً مع تزايد التوتر الداخلي في لبنان بين تيار يميل إلى أصحاب الفكر الأول وتيار مؤيد لأصحاب الفكر الآخر حتى وصل الحال بلبنان إلى حالة الشلل الشبه تام لفترة ليست بالقصيرة.

ثم جاء الانقسام الفلسطيني الداخلي ليلهب الاختلاف العربي بين أولئك الذين يؤيدون السلطة الفلسطينية وحركة فتح ويعتبرون سيطرة حركة حماس وبسط نفوذها على قطاع غزة بأنه laquo;انقلابraquo; ضد الشرعية الفلسطينية وأن تشدد حماس ورفضها التعامل بلغة السياسة لا يخدم المصلحة الفلسطينية ولا المصلحة العربية وإنما جاء ليخدم مصالح جهات إقليمية أخرى، وبين أولئك الذين اعتبروا أن حماس على حق ويجب التعامل معها كقوة لها إستراتيجيتها التي لا بد أن تحترم فلسطينياً وعربياً ودولياً.

في خضم كل ذلك التجاذب العربي جاءت أزمة غزة الحالية لتلقي كل تلك التجاذبات العربية بظلالها على الموقف من ما يحدث في فلسطين وبالذات في غزة.

فالحرب الباردة العربية استمرت وانعكست بشكل واضح على أزمة غزة حيث هناك الفريق الذي يعتبر بأن ما آل بالوضع إلى ما هو عليه في غزة إنما هو الانقسام الداخلي الفلسطيني من جراء laquo;انقلابraquo; حماس على السلطة وسيطرتها على قطاع غزة واحتمائها وراء أجندات إقليمية غير عربية ورفضها المسار الدبلوماسي وبين أولئك الذين يعتبرون بأن حماس تقاتل باسم الفلسطينيين والعرب جميعاً ويجب الوقوف معها.

وبين هذين الفريقين يحتدم الخلاف وتستغل إسرائيل حالة الخلاف هذه لتقوم بما تقوم به من جرائم بشعة ضد الإنسانية في قطاع غزة ولا تجد من يوقفها عند حدها. ففريق يلقي اللوم على التوغل الإقليمي والانقسام الفلسطيني وفريق آخر يرد ذلك إلى الضعف والتهاون العربي.

حالة العالم العربي المنقسمة هذه هي شعار المنطقة العربية وما يدور فيها في الوقت الراهن وما سيأتيها في المستقبل. وبالتالي إذا لم يتمكن العرب من حل خلافاتهم مع بعضهم البعض بطريقة تجعلهم يعملون كيد واحدة فإن الأيادي الأجنبية ستستمر في استراتيجياتها لقمع واستغلال العالم العربي بأبشع الطرق.

فما نحتاج إليه نحن في العالم العربي هو أن نلقي مشاكلنا العالقة على طاولة الحوار وبشكل صريح وواضح فيما بيننا ومن دون أطراف أخرى تسيرنا أو تلقي أجندتها علينا ومن ثم نعمل على حلها فيما بيننا، عندها فقط نستطيع أن نكون يداً واحدةً في مواجهة المعتدين.

فلا مصلحة للعرب بانقسامهم هذا لأن انقسامهم الكبير في حالة حرب باردة بينهم يولد انقسامات فرعية وحروب باردة في كل بلد عربي وهو ما يود العدو الصهيوني بالدرجة الأولى الوصول إليه. وحتى ذلك الحين فإنه من المفترض أن نضع كل خلافاتنا القائمة جانباً .

ونحاول نصرة الشعب الفلسطيني ليس بالطعام والتبرعات وإنما بموقف سياسي موحد يخدم قضيتهم ويساعدهم على حل خلافاتهم ولو بشكل مؤقت حتى يتسنى للعرب حل خلافاتهم العالقة فيما بعد، فالحالة الفلسطينية ليست إلا انعكاساً واضحاً للحالة العربية برمتها التي تستعر في أحشاءها حالة من التوتر بين أطرافها العربية وهي الحالة التي يمكن أن توصف بالحرب الباردة العربية.