إياد أبو شقرا

laquo;في الولايات المتحدة، أصبح التصرّف الخلوق، مثل الوطنية، وسيلة تسويقية مفضلةraquo;

(إتش . إل. مينكن)

غدا من الواضح أن كل طرف من الأطراف المعنية بملفات الشرق الأوسط الشائكة، في مأزق.. أما الفارق الوحيد فهو في أحجام مآزق كل طرف.

هذا laquo;المأزق الجماعيraquo; يبدو اليوم الدافع الرئيس إلى التفكير بعقد مؤتمر laquo;مدريد 2raquo;.

فرئاسة باراك أوباما في واشنطن تفقد وهجها بسرعة مقلقة.. ومع هذا الوهج صدقيتها كإدارة laquo;تغييريةraquo;، كما جاء في شعاراتها الانتخابية. والقوى الناشطة على المسرح الدولي تريد مساومة هذه الإدارة الأميركية المتردّدة لكي تنتزع منها ما تستطيع انتزاعه.. لكنها بالقدر نفسه لا تريد لهذه المساومة أن تتحوّل إلى ابتزاز مكشوف يضعفها.. ومن ثم يستفيد منه خصوم أوباما الداخليون من مدرسة جورج بوش laquo;الابنraquo; الانعزالية الإملائية وlaquo;اليمين الأميركيraquo; التفرّدي المتشدّد.

ثم إن الحالة العربية هي اليوم من السوء والعجز بحيث يمكن القول إنها أسوأ حتى من فترة 1990 التي سمحت لصدام حسين بغزو الكويت واحتلالها.. جاهلا أن العالم تغيّر بعد سقوط laquo;جدار برلينraquo; وما يعنيه من رمزية وميزان قوى. فعدد الدول العربية المهدّدة بأن تصبح laquo;دولا فاشلةraquo; في ازدياد مخيف. والتدخلات الخارجية المسلحة منتشرة اليوم في عموم المشرق العربي من العراق إلى اليمن. أما إسرائيل فتعيش أكثر فأكثر عبثية السعي للأمن المزعوم عبر تعميم الفوضى، وهي بعدما كانت تفعل ذلك في الماضي laquo;مرتاحةraquo; خارج حدود احتلالها فإنها اليوم تقطف laquo;ثمارraquo; الفوضى المدعومة خارجيا داخل حدود هذا الاحتلال.

نعم، ظروف مؤتمر laquo;مدريد 1raquo;، عام 1991، تختلف من حيث التفاصيل عن الظروف الراهنة، لكن الذين دعوا إليه.. وأيضا أولئك الذين شاركوا فيه.. كانوا أيضا في وضع غير مريح.

فـlaquo;اتحاد سوفياتي ميخائيل غورباتشوفraquo; كان يكافح يائسا للبقاء على قيد الحياة بعدما بدأ رئيسه مسارا سياسيا انتحاريا اكتشف لاحقا - رغم ترضيته بجائزة نوبل للسلام - أنه مسار مستعص على الكبح والاحتواء. وإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش laquo;الأبraquo; كانت متحمسة لتأكيد زعامتها العالمية لكي تستثمرها داخليا انطلاقا من الانتخابات الرئاسية التالية.. التي خسرتها بالنتيجة أمام الديمقراطي بيل كلينتون في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992.. بعد 12 شهرا فقط من انعقاد المؤتمر.

وعربيا، معلوم أن حرب تحرير الكويت كانت العنصر المسهّل لعقد laquo;مدريد 1raquo;، ولا شك أنه ما كان لغزو الكويت أن يحصل في الأساس لو كان هناك laquo;نظام عربيraquo; يفهم واقعه، ويعرف كيف يطوّر آلية لحل الأزمات، ويسود فيه الحد الأدنى من الثقة بالذات وبالآخرين. واستطرادا، أثبت ذلك الغزو، وكذلك ذلك المؤتمر، مدى العجز العربي.

ومن ناحية ثانية، مع مطالبة واشنطن تل أبيب، يومذاك، بالامتناع عن التدخل، أثبت المؤتمر أيضا أن إسرائيل لا تستطيع ساعة تشاء أن تتمرّد على واشنطن، وهي المدينة لواشنطن بحمايتها في الإطار الاستراتيجي العام خارج الحسابات المباشرة لمبدأ الدفاع عن النفس. ولذا، برغم قرع بنيامين نتنياهو طبول الحرب والتهويل على الفلسطينيين والعرب والعالم بحتميتها، فإن ثمة محللين عقلاء يستبعدون اليوم مغامرة إسرائيلية واسعة النطاق من دون laquo;ضوء أخضرraquo; أميركي.

مما تقدّم، وكذلك مما يرشح عن المسؤولين الأميركيين من كلام عن أن أي محاولة للحسم العسكري مع إيران ستعرّض استقرار الشرق الأوسط للخطر، يستنتج المراقب أن واشنطن - حتى الآن على الأقل - ضد خيار حرب إقليمية ضد إيران وامتداداتها داخل المشرق العربي.

وبالأمس، دعت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إسرائيل والفلسطينيين إلى استئناف مفاوضات السلام laquo;من دون شروط مسبقةraquo;، مع تعبير ملتبس عن تأييدها laquo;دولة فلسطينيةraquo; بحدود 1967، ولكن مع صفقة تسوية تتعلق بتعديلات حدودية تأخذ في الاعتبار واقعَي الاستيطان والمستوطنات (!).هذه الدعوة تظهر أن الإدارة الأميركية تريد حقا فعل شيء، لكنها كما بات جليا تجد نفسها عاجزة عن ذلك بسبب تعقيدات شبكات المصالح الداخلية.. التي يعبّر عنها الكونغرس. وهذا العجز الكلي أو الجزئي قد يدفع هذه الإدارة باتجاه عقد مؤتمر دولي من نوعية laquo;مدريد 2raquo; لإنقاذها من عجزها عن الحسم، وتحصينها أمام ممثلي شبكات المصالح المرتبطة بالتحالفات المصلحية العريضة في الداخل الأميركي لجماعات اليمين المالي والتسليحي والصهيوني والمسيحي الأصولي.

هنا لا بد من القول إنه من الأهمية بمكان ألا يأتي laquo;مدريد 2raquo; - إن أتى - فقط لإنقاذ الإدارة الأميركية من laquo;ورطةraquo; تعهّداتها الانتخابية المثالية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. ذلك أن الصورة الإقليمية اليوم أخطر بكثير من أن تحلّ بـlaquo;مسرحيةraquo; علاقات عامة.. لا تسمن ولا تغني من جوع. ومنطقة الشرق الأوسط، ومن بعدها، العالم الإسلامي كله يعيشان أزمتي عقل وثقة في علاقاتهما مع الغرب. وسيكون في صميم مصلحة القوى الغربية - إذا سلمت نياتها - أن تتبنى مقاربة سياسية لا أمنية فقط في حربها ضد laquo;الإرهابraquo; الأصولي، المربوط حصرا بجماعات إسلامية.

فالأمن وحده لن يمنع تنامي الظواهر laquo;القاعديةraquo; وlaquo;الطالبانيةraquo; في قلب المجتمعات الغربية، بل، وفي أرقى جامعاتها.

والأمن وحده لن يمنع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من التباهي - كما فعل أول من أمس السبت - بقوة إيران على المستوى العالمي، ومخاطبة قادة الغرب، قائلا laquo;أنتم اليوم عاجزون عن إدارة بلدانكم وعن التأثير على المعادلات الدوليةraquo;.

والأمن وحده، طبعا، لن يدفع المظلوم لتناسي توقه إلى العدل والإنصاف واحترام حقه الإنساني الطبيعي بحياة كريمة.

إن لب أزمتي العقل والثقة بين المسلمين والغرب.. سياسي، ووسيلة العلاج المثلى يجب أن تكون سياسية واعية وحكيمة، وعادلة وحازمة في آن.