جميل مطر

كان لقاء على غداء، كلاهما فوق العادة. المكان خارج مصر والحضور متعدد الجنسيات والأعراق، بخلفيات سياسية متباينة وعقول منفتحة وثقافات شتى ومتابعة دقيقة لتطورات الأمور في الشرق الأوسط. بدأ الحديث عند الظهيرة متشعباً، وعند الساعة الثانية استقر على قضية بعينها حتى انتهى اللقاء وغادر الضيوف. البعض منهم غادر إلى بيته والبعض الآخر إلى المطار عائدا إلى بلاده.

بدأ الحديث برأي أدلى به أحد الضيوف في الرئيس أوباما. كان واضحاً أن الضيف الذي تطوع ليكون البادئ بالحديث أراد توجيه ضربة استباقية لكل من ستسول له نفسه أن يكون الناطق باسم جماعة الخائب أملهم في الرئيس الأسمر وفي إصلاحاته الداخلية وسياساته الخارجية. قال إن أوباما فوجئ بالعقبات التي ظهرت في طريقه الذي وعد بأن يسلكه في حملته الانتخابية، وقرر أن يدخل تعديلات عليه، ldquo;هذه التعديلات لا تعني التخلي عن خططه وأهدافه فهي تعديلات تكتيكية الهدف منها إلهاء المعارضين من قادة الحزب الجمهوري والمنشقين داخل الحزب الديمقراطي والمترددين الجدد داخل إدارته وفي البيت الأبيضrdquo;. وبحسب هذا الرأي فإن أوباما قد يمد في عمر بعض مبادراته أو يرجئ تنفيذ خطواتها ولكنه في كل الأحوال لن يخرج عن الهدف المرسوم.

توقعت أن توافق أغلبية الضيوف على هذا الرأي تأدباً، ولكن أيضاً لأنها ربما لا تريد أن تعترف بالإحباط وما زالت تتمنى أن يحقق أوباما ما عجز أسلافه عن تحقيقه. كان بين الضيوف عدد من كبار المنتفعين من اقتصاد السوق وعدد من المنتمين للمبادئ الليبرالية في السياسة وواحد ينتمي للتيار القومي وآخر للماركسي وثالث للديني المعتدل. لم تصدق توقعاتي، إذ رفض عدد لا بأس به فكرة التكتيكية في مسيرة أوباما، وأعلن البعض بصراحة أن أوباما كان صادقاً وفسد أو أنه كان شجاعاً وجبن أو أنه كان حالماً واستيقظ. المؤكد في نظر هذا العدد من كبار المفكرين، وبينهم أجانب، أن أوباما انهزم في أول مواجهة له مع قوى اليمين وانهزم في أول اشتباك له مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وأن اليهود نجحوا في كسر بعض عظامه.

شعرت، والنقاش يدفع بالمترددين إلى التدخل، بحرص كل متحدث على أن يدفع عن نفسه تهمة اعتناق نظرية المؤامرة، حتى الضيف الذي كان يتحدث بموضوعية مطلقة عن معركة كسر العظام التي دارت بين أوباما وجماعات الضغط اليهودية، لم يفته أن يعلن براءته من شبهة العداء للسامية ونظرية المؤامرة. ادعاء البراءة نفسه ورد على لسان المتحدثين عندما انتقلوا إلى موضوع الفتن الطائفية التي أصبحت فجأة علامة بارزة من علامات تدهور أوضاع الدول العربية خاصة والإسلامية عامة. قال أحد الحاضرين لا أستطيع أن أقبل بالرأي القائل إن الأحداث التي وقعت في صعيد مصر وفي ماليزيا وضد كنائس العراق والكنائس في منطقة الأمازيغ في الجزائر وفي السودان، وقعت كلها في وقت واحد بالصدفة المحضة. ولم يدع متحدث آخر الفرصة تمر دون أن يجد رابطة ما تربط بين أحداث الفتن الطائفية والفتن المتشعبة في السودان وفتن اليمن، وأن جميعها يندرج تحت العنوان الذي كانت تفضله كوندوليزا رايس، وهو ldquo;التدمير البناءrdquo;. فقد تحقق بالفعل، تدمير النظام العربي، بدلائل ليس أقلها أهمية الاختراق المنتظم والحثيث من جانب كل من تركيا وإيران للإقليم، ورفضهما الاطمئنان إلى قدرة الدول العربية، بحالتها الراهنة، على تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ووقف التهديد الصهيوني وإنقاذ شعب غزة وحلحلة القضية الفلسطينية وقصور أخرى كثيرة. ولم ينتقل الحديث إلى الموضوع التالي إلا بعد أن استأذن سياسي عربي مخضرم ليدلي برأي أصرّ على أن يعتذر عنه قبل الإدلاء به، قال إنه يعتقد بناء على شواهد وشهادات أن فروعاً في قطاعات الأمن مرتبطة بمصالح معينة هي التي تثير الفتن الداخلية في دول بعينها، ولا يستبعد أن ينكشف تورط شخصيات وتنظيمات شبه حكومية في إشعال الفتن تماما أو التستر عليها وعلى مرتكبيها.. لم يعلق أحد.

* * *

عندئذ انتقل المتحدثون إلى دور مصر. لم يحدث الانتقال عن عمد فلم يوجد جدول أعمال ينظم اللقاء. مصر لم تكن غائبة عند الحديث عن أوباما وسقوط الرهانات العربية عليه، وكانت موجودة عند الحديث عن ldquo;إسرائيلrdquo; وكسر عظام خصومها في أمريكا وتركيا وإيران وبريطانيا، وعند الحديث عن اختراق تركيا وإيران للمنطقة وسقوط النظام العربي، وشلل الجامعة العربية وعملها المشترك أو تدهور أدائهما. وكانت مصر موجودة عند الحديث عن إنقاذ شعب غزة والفتن الطائفية. كانت مصر موجودة في كل موضوع من موضوعات النقاش، لذلك لم يكن غريباً أو متعمداً أن يحرص الجميع على أن تكون مصر محور حديثهم بقية اللقاء الذي امتد حتى المساء.

أحد الحاضرين، وكلهم بالمناسبة على دراية بشؤون مصر وبخاصة دورها الإقليمي وأوضاعها الداخلية، قال إنه يعتقد أن ما يفعله النظام الحاكم في مصر ينسجم مع تعبير استخدم في بداية هذا اللقاء عن أوباما الذي اختار ldquo;مسالك تكتيكيةrdquo;، بهدف إلهاء خصوم وتهدئة منشقين. النهج نفسه تسير عليه الحكومة المصرية منذ عقود ثلاثة. يستطرد الصديق الأجنبي قائلاً: ldquo;لقد خلف الرئيس السادات تركة استراتيجية غير مسموح لمن يخلفه أن يمسها بالتغيير أو التعديل، وإلا انفرط عقد النظام أو تعرض لعقاب شديد من جانب الولايات المتحدة وrdquo;إسرائيلrdquo; ودول عربية راهنت جميعاً على مستقبل سياسي واجتماعي معين لمصر. لذلك، يضيف الصديق، لم يكن في وسع خلفاء الرئيس السادات إلا العمل تكتيكياً للمحافظة على التركة الساداتية ومنظومة العلاقات الخاصة مع ldquo;إسرائيلrdquo;، وهي علاقات رسمت بعناية وبدقة عالية. ويدافع الصديق عن سياسات مصر الراهنة بالقول إن عبدالناصر نفسه استخدم المنهج التكتيكي عندما وافق على التعامل مع مبادرة روجرز في الوقت الذي كان يعد فيه البلاد لحرب يستعيد بها الأرض. ولم يستطرد لشرح دلالة المثال وما إذا كان يريد الإيحاء بأن النظام الحاكم في مصر يعد العدة لتحرير منظومة علاقته مع ldquo;إسرائيلrdquo; ومنظومات أخرى في علاقاته الخارجية. ومع ذلك فقد تدخل ضيف آخر ليعلق فقال ldquo;أظن أن النظام في مصر غير مستعد للتخلي عن هذا المنهج في صنع السياسة الخارجية، بل وأيضاً الداخلية، لأنه النهج الوحيد الذي يسمح له بإعادة ترتيب الجزيئات والتلاعب بها وتشغيلها ضد بعضها بعضاً بشكل وأسلوب يخدم استمرار ldquo;مصرrdquo; في الوضع الذي تركته صفقات الدبلوماسية والمعونات والضغوط، والغزو السلفي، التي أبرمت في نهاية عهد الرئيس الساداتrdquo;.

تدخل الآخرون فطلب أحدهم مساعدته بالإجابة عن سؤال تعب في البحث عن إجابة له، سأل: ldquo;ماذا تريد مصر من غزة؟ هل مصر تريد غزة من دون حماس، هل تريد غزة ضمن دولة فلسطينية موحدة يحتفظ فيها كل قطاع بنظامه الخاص؟ هل ترفض أن تبقى غزة تحكمها حماس ولكن منزوعة السلاح والغذاء واللسان؟ هل صحيح أن مصر مستعدة لإقامة تعاون مع ldquo;إسرائيلrdquo; أوثق من التعاون القائم حالياً بينهما ضد إيران؟ وإذا دعت الضرورة ضد تركيا أيضاً في حال بالغت تركيا في ممارسة موقفها المناهض للسياسة ldquo;الإسرائيليةrdquo;.

علق ضيف آخر بالقول إن مصر تعرف أكثر من غيرها أن مواقف حماس من التسوية لم تعد تختلف جذرياً عن مواقف فتح. صارت حماس قريبة مما تعرضه فتح على ldquo;إسرائيلrdquo;. ثم إن مصر عندما تفاضل بين حماس وفتح إنما في الحقيقة تفاضل بين حكم مستبد وحكم فاسد، هل يضيرها بشدة وجود نظام استبدادي في غزة ولا يضيرها أن تقوم حكومة فلسطينية موحدة ولكن فاسدة تحكم الضفة والقطاع معاً؟ المطلوب من مصر، حسب رأي هذا المتحدث، أن تتداخل اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا مع غزة وغيرها، ولكن لا تتدخل.. وهو تماما المطلوب من سوريا في لبنان.. أن تتداخل ولا تتدخل.

من جهة أخرى، كان هناك ما يقترب من الإجماع بين الحاضرين على أنه قد يكون من مصلحة النظام في مصر والأمن المصري بشكل عام تشكيل جماعة أو مؤسسة أو منظومة فكرية عربية تملأ الفراغ الذي خلفته مصر حين أهملت نفسها وتخلت عن مسؤولية المحافظة على الاستقرار الإقليمي باعتباره حصن الأمان لحدودها الشرقية عبر القرون. لقد سمح هذا الفراغ لrdquo;إسرائيلrdquo; بأن تعتدي ثم تهيمن وتؤثر سلبيا في مكانة مصر الدولية، رغم اقتناع بعض المسؤولين المصريين بأن ldquo;إسرائيلrdquo; تقدم خدمات للسياسة الخارجية المصرية في بعض دول الاتحاد الأوروبي وفي الكونجرس الأمريكي. وسمح الفراغ لإيران بأن تتدخل وتتداخل في شؤون المشرق والخليج منتهزة حالة الغضب السائدة في المنطقة ضد السياسات الأمريكية والغربية عموماً، وسمح الفراغ لتركيا بأن تنزل إلى الساحة العربية لتحافظ على مصالحها القومية من توحش الهيمنة ldquo;الإسرائيليةrdquo; وانعزال مصر بإرادتها المطلقة والاختراق الإيراني واحتمالات وقوع صدامات نووية على حدودها الجنوبية.

* * *

الأمل ضعيف في أن ينهض الإقليم إلا إذا تخلت مصر عن ممارسة السياسة بنظام ldquo;القطاعيrdquo;، كل قطعة منفصلة عن القطع الأخرى، وبالساعة، كل ساعة حسب المزاج عندها وظروف صانع السياسة وانشغالاته. لن ينهض ويتحقق الاستقرار فيه إلا إذا تخلت مصر عن سياسة تعتمد على ldquo;تكتيكاتrdquo; غير منتظمة أو مدروسة وتبنت كبديل لها سياسة تقوم على قواعد وأصول استراتيجية تحظى برضا وثقة قياداتها الثقافية والسياسية وتتوافر لها خبرات متميزة.