سعد عطية الغامدي

لا تزال وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأوروبية تناقش مدى قانونية استخدام الأشعة الكاشفة للجسم البشري للمسافرين الذين ينتمون إلى ست عشرة دولة كلها عربية مسلمة، ومنها المملكة في أعقاب محاولة تفجير مسافر نيجيري نفسه على طائرة أمريكية استقلها من أمستردام إلى ديترويت عشية أعياد الميلاد، وقد ترددت سلطات مطار هيثرو في تشغيل أربعة أجهزة كان قد تم تركيبها من قبل إلا أن مجلس حقوق الإنسان الأوروبي عارض التشغيل لما يمثله من انتهاك لحقوق الإنسان، إلا أن السلطات غضت الطرف عن الانتقادات ورأت أن الحاجة تبرر ما لجأت إليه.
كان الكاريكاتير الذي ظهر في مجلة quot;الإيكونوميستquot; أبلغ في التعبير من الكثير من المقالات لأنه يعرض لأصناف مما وراء الخيال في تعريض المسافر لاختبار تلو اختبار يكشف عما يدور في الذهن وفي القلب وداخل خلايا العظم واللحم بشكل تهكمي ليخرج المسافر بعد التفتيش وكأنه كتاب قرئت كل صفحة منه بل كل حرف، مما يثير التقزز والاشمئزاز لما تنطوي عليه عمليات التفتيش من عنصرية لم تجد سبيلا للتعبير عنها إلا في تعريض المسافرين لما يمكن أن يذهب إليه هوس العنصرية من إهانة وتحقير واستفزاز، بحيث لا يملك المضطر إلى السفر إلا أن يغمض عينيه ويكتم أنفاسه ويستسلم لما هو فيه من إذلال.
هذا المأزق الذي وقع فيه مسافرو هذه الدول الست عشرة لا يبدو أن هناك ما يبرره، حتى ولو أن العسيري والنيجيري الإرهابيين اللذين ابتكر الإرهاب من خلالهما أسلوبا لا يخطر على بال في إخفاء المتفجرات في أماكن حساسة من جسديهما، لكن ردة الفعل كانت فوق ما يحتمله منطق التعامل لأسباب من أهمها أن الأول ومن على شاكلته إرهابي مطلوب للعدالة، بينما سبق لوالد الثاني منهما أن أبلغ عن التحولات التي لاحظها على سلوكيات ابنه، وهذا ما جعل الرئيس الأمريكي أوباما يتهم السلطات الأمنية في بلاده بأنها قد قصرت في القيام بواجبها على النحو المطلوب مما يعزز من احتمال الأجندة لدى جيوب ضمن هذه السلطات لغرض مزدوج: إحراج الرئيس ودفعه إلى المزيد من التشدد إضافة إلى ممارسات جاءت الإدارة الجديدة للحد منها بل للقضاء عليها.
من الشواهد على أن هناك أجندة وأن هناك محرضين ما كتبه quot;رودي جوليانيquot; عمدة نيويورك أيام اعتداءات سبتمبر 2001 والمرشح الرئاسي السابق في صحيفة نيويورك تايمز من أن فترة حكم الرئيس جورج بوش الابن لم تشهد اعتداء واحدا داخل أمريكا في تعليقه على محاولة عبدالمطلب تفجير الطائرة القادمة من أمستردام مما دعا بعض المعلقين عليه هناك إلى تذكيره بأن الاعتداءات الشاملة وقعت داخل الولايات المتحدة في بداية عهد الرئيس بوش، مما يوحي بالمدى الذي وصل إليه التفكير في إعادة أجواء العداوة مع العرب والمسلمين، واستصناع الأدلة التي تستخدم لتبرير أي عمل انتقامي على الصعيد الفردي والرسمي.
الغريب في كل هذا أن ترفع الصحافة الغربية صوتها عاليا منتقدة مدى التجاوز الذي يصل حد انتهاك الحقوق الإنسانية للمسافرين في الوقت الذي لا نرى ولا نسمع صوتا من منظمة المؤتمر الإسلامي أو رابطة العالم الإسلامي أو جامعة الدول العربية، لأن السكوت من هذه الهيئات ومن الجهات الحكومية وغير الحكومية في الدول التي ينتمي لها هؤلاء المسافرون يعتبر مشاركة في الانتهاك لأن الصمت على ما يجري هو الرضا بالآليات المنهكة للحقوق.
قد يكون من بين الإجراءات التي تناسب هذه الممارسات أن تلجأ الدول التي يهان مسافروها إلى معاقبة بالمثل على ما في ذلك من انتهاك لكن الضرورة تجبر الناس في عالم الواقع إلى ما تدفع به ضررا أو تسترد به حقا، وقد يكون من بين الإجراءات إقامة الدعاوى من المسافرين الذين تنتهك كرامتهم بهذا النوع من التصوير الفاضح الذي يظل كابوسا يلاحق الشخص ndash; ذكرا أو أنثى ـ خاصة وأن الصورة ثلاثية الأبعاد وقد يتم الاحتفاظ بها لفترة طويلة.
معلوم أن أيا من هؤلاء المسافرين لن يستطيع تمويل قضية يقيمها ما لم تقم إحدى الهيئات السابقة أو جميعها متكاتفة بهذا التمويل واختيار أكفأ المحامين من أجل إيقاف هذه الإهانات ووضع إطار أخلاقي يحقق الغاية من نظام كفء يحفظ للمسافرين كرامتهم ويصون حقوقهم الإنسانية التي لا يجوز الاعتداء عليها أو المساس بها، وما لم يتم السير في سبيل يوقف الأمر في البداية فلا أحد يستطيع التنبوء بما يمكن أن يسفر عنه الغد، خاصة وأن كاريكاتير الإيكونوميست يفتح الباب واسعا أمام خيال ليس بعيدا في قذارته ووضاعته عن أسلوب العسيري والنيجيري.