عبد الوهاب بدرخان

مرَّت الذكرى العاشرة لاندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000 في ظروف quot;تفاوضيةquot; فاشلة، لكن أحداً لا يتوقع انتفاضة ثالثة، تحديداً لأن الشعب الفلسطيني لا يزال يعيش تداعيات quot;الثانيةquot; التي استغلتها إسرائيل أيما استغلال تقتيلاً وتدميراً واستيطاناً و... تلاعباً بالواقع والوقائع على الأرض. فجدار الفصل أعدَّ للدواعي الأمنية، لكن خصوصاً لتعجيز أي اتفاق على الحدود. وبالإضافة إلى الجدار الذي أمعن في تقطيع المناطق الفلسطينية واستخدم لقضم مساحات إضافية من الأرض، زُرعت المستوطنات الداخلية لمزيد من تقطيع الأوصال. وفي غمرة التداعيات أيضاً، جرى الانسحاب من قطاع غزة، ليس رغبة في تحريره وإنما لتسهيل استخدامه هدفاً للتصويب والرماية. أما الضفة فعلى رغم أنها انضبطت إلى حد كبير أملاً في تفعيل البناء والتنمية وتحسين الظروف المعيشية فلا تزال تعامل، بشراً وحجراً، سلطة ومواطنين، بعدائية احتلالية منهجية، سواء بالإذلال على الحواجز والمعابر أو بالوحشية في الحملات الأمنية.

ومرَّ نحو عقدين على المفاوضات، نوقشت خلالهما الملفات كافة، نقّبت وقلّبت، حتى لم يعد هناك أي ملمح مجهول في ما سيكون عليه الحل النهائي. ومع أن إسرائيل دخلت التفاوض مرتين على أساس quot;إنهاء الصراعquot;، مرة أولى مع إيهود باراك في كامب ديفيد، وثانية مع نتنياهو في المحاولة الراهنة المترنحة، إلا أنها استغلت المفاوضات لمحاربة المفاوضات، بل لقتل أي حل نهائي يلوح في الأفق. ولم يعد أحد يجهل أن الاستراتيجية الإسرائيلية المتّبعة في التفاوض هي تيئيس الفلسطينيين من التفاوض ليقبلوا مع الوقت أي فتات يرمى إليهم. وعندما نُشرت قبل أسابيع نتيجة استطلاع للرأي أجرته محطة فضائية عربية وتبين فيه أن القضية الفلسطينية تراجعت في اهتمام الرأي العام العربي، قفزت الأقلام والأبواق اليهودية لإشهار المناسبة بأنها معبرة وموحية، وبالتالي بالغة الطمأنة لإسرائيل. لكن منتهزي هذه الفرصة يعرفون أنه لا مكسب يرتجى من مجرد استطلاع للرأي يعبر عن الضيق من عقم المفاوضات وعبثيتها، ولا يمكن أن يعني بأي حال إنكاراً لحقوق الفلسطينيين في أرضهم، ولن يعني إطلاقاً تحبيذاً عربيّاً لدوام الاحتلال.

في اللحظة الراهنة تعتقد إسرائيل أنها بلغت مرحلة انتصار تاريخي غير مسبوق ربما في أي صراع شهده التاريخ المعاصر. فالشعب المضطهد، المطالب بحقوقه، يجد نفسه فاقداً ورقة المقاومة المشروعة المعترف بها دوليّاً وإنسانيّاً ضد الاحتلال والظلم. كما فقد في الوقت نفسه احتمال المفاوضات الهادفة والمجدية. قد يبدو انتصاراً للتيئيس. قد يبدو أشبه بنهاية التاريخ لهذا الشعب. لكنه قد يكون تأسيساً لنمط آخر من النضال من أجل التحرر. فالمرحلة التي حملت عنوان quot;عملية السلامquot; والمفاوضات دخلت نهايتها، بعدما أمعن الأميركيون في دعم الإسرائيليين على إفسادها وتلغيمها لتصبح عاجزة عن صنع أي حل أو أي سلام. فليس عند هذا الثنائي الأميركي- الإسرائيلي عرض للفلسطينيين سوى الاستتباع، وهو ليس خياراً.

مرَّت أيضاً أربعة أعوام على انقسام الشعب الفلسطيني على أرضه بين نهجين لا يبدو أن أيّاً منهما يملك الوصفة السحرية للخروج من النفق. فحركة quot;فتحquot; لا تزال تدفع ثمن الانتفاضة الثانية بعدما نُكَّل بها وجرى تسميم زعيمها ياسر عرفات الذي أدرك العدو الإسرائيلي أن التخلص منه يعني إطاحة الحلقة الأساسية للمشروع الوطني الفلسطيني، فهو الوحيد الذي أمسك العصا من الوسط بين المقاومة والمفاوضة. وقد أدى رحيله إلى تداعي quot;فتحquot;، وإلى صعود quot;حماسquot;. ولعل أدقّ تقييم لدور quot;حماسquot; هو الذي قدمه فاروق القدومي حين قال إن مصلحتها تبقى في ظل quot;فتحquot;. أي أن تتمرد من داخل quot;النظامquot; لا أن تنقضه من أساسه. لاشك أن أسوأ الخيارات أن يضع شعب نفسه أمام المستحيل، وها هو الانقسام يصنع العجز عن الانتفاضة وعن المفاوضة وعن المصالحة. أعوام كثيرة أخرى ستمرّ قبل أن يتبلور مشروع وطني آخر.